على أنغام "رقّصني يا جدع"..

07 نوفمبر 2014
+ الخط -

لم يكن حضور الراقصة، ومِن خلفها أو أمامها، المطرب الشعبي، عبثياً، في أفلام سينمائية مصرية قديمة، لا يكاد أحدها يخلو من المشهد، وإنْ كان هذا الحضور ليس مفصلياً أو موظفاً في أحداث الفيلم، فإنه منطقيٌّ في نقل صورة أقرب للواقعية الحياتية المصرية، التي مهما اشتدّ النكد بها فإنها لا تستغني عن طبلةٍ ما ترقص على إيقاعها، وجعاً أو طرباً، جوعاً أو مماشاة لصاحب العرس..

وبما أن "صاحب العرس" الآن يكره تركيا وقطر، وكل من يدعم خصومه السياسيين، الإخوان المسلمين، فلا بد إذاً من مجاملة "العريس" بتحية أو موقف، وهو ما لم يبخل به الساسة وجمهور كثير لا يعلم عن تلك الدول أكثر من أسمائها غالباً، إلا أن المطرب الشعبي، شعبان عبد الرحيم، صاحب الغرائب وأغنية "أنا بكره إسرائيل"، أراد أن يتفرّد بتحيته، وهو الذي يملك الطبلة التي تُرقّصُ الملايين، الملايين من المخذولين والمخمورين والجياع والحشاشين، فخرج على جمهوره ورئيسهم بأغنية لا تهدم رئاسة تركيا ولا تهز دولة قطر ولا تحرج البيت الأبيض، بقدر ما يجب أن تُشعر مصريين مصفقين لها بالخجل والعار، وتدعوهم للخوف على موروثهم الشعبي الرائع الذي بناه عباقرة، حتى أصبح ركناً أصيلاً في عمارة الفن المصري، الأكثر ارتباطاً بالحياة وتوثيقاً لها.

وهكذا كان الغناء الشعبي العربي على الدوام، ضمير الناس والوسيلة التعبيرية الأقدر على استيعاب وتوصيل تفاصيل حياتية ومجتمعية، يستحيل على لون آخر من الفنون استيعابها وإعادة إنتاجها في وعاء فني مقبول ومُحبب، فمن العراق والشام إلى أقصى المغرب العربي، دوّن الغناء الشعبي وجدان السكان المحليين، من احتفالات وأعياد ومناسبات إلى مواسم الزرع وأدواته ومراحله، مروراً بالأعراف والتقاليد الموروثة في الزواج ومراحله والحالات الاجتماعية المختلفة، متخذاً من وسائل موسيقية وإيقاعية، محلية الصنع، أدوات لا يستبدلها، مهما تطورت أدوات الموسيقا، فالآلة في الغناء الشعبي جزءٌ أصيلٌ من الحالة، فيما يمكن القول إنه تكامل المعنى والمبنى..

أغنية "شعبولا" الجديدة تهاجم تركيا وقطر وأميركا، وتصفهم بمثلث الإرهاب، في سياقات ممجوجة فنياً وإنسانياً، غير بعيدٍ عن استنتاجاتٍ سياسية تعلي من شأن عبد الفتاح السيسي. وقد احتفى الإعلام المصري بالأغنية وصاحبها على شاشاته، فاستضاف الإعلامي وائل الأبراشي صاحبها في برنامج خاص، واصفاً الأغنية "بالجدية الشديدة وخفة الظل". وهنا يتضح، تماماً، الاستثمار السياسي والإعلامي اللاأخلاقي لصاحب الأغنية الدرويش الذي ما كان يطمح لأكثر من قبوله مطرباً بسيطاً في حي شعبي فقير، يكسب قوت يومه بعرقه، أو تهريجه أو حظه، إلا أن نجم الرجل سطع، ولا بد من امتطاء فرسٍ ما كانت يوماً تصلح لهذا الفارس..

لا أريد، هنا، أن أذكّر المطرب الدرويش بالفوارق الحضارية والسياسية والديمقراطية والخدماتية الهائلة بين مصر "السيسي" وتركيا "أردوغان"، كما سمّاهما، مع ثقتي بأنه لا يعرفها، ولا هو قادرٌ على إدراكها، ولا أن أذكّرهُ بموقف البلدين والرئيسين من الشعب السوري في محنته، فدخول مصر "السيسي" أصعب على السوري من دخول سويسرا، بينما تفتح تركيا أبوابها لمليون ونصف المليون سوري، نصفهم بلا وثائق سفر، ومع هذا كله، لا آمل أن يستحي على دمه ويخجل، وإنما أدعوه ليخجل ممن شوّه، أو كاد، بحماقاته إنجازاتهم التي حققوها لبلده وأهل بلده، أدعوه ليخجل من سيد درويش، ومن عيون بهية، ومحمد العزبي الذي ما جفَّ ماء قبره بعد، كما لن تجفَّ أغانيه التي سكنت نبضات قلوب المصريين، بينما يصرُّ "شعبولا" على سكن زاوية نائية في ذاكرة "يوتيوب" الجاحدة.

 

avata
avata
ياسر الأطرش (سورية)
ياسر الأطرش (سورية)