بحار وقارات تفصل بين مئات آلاف اللاجئين السوريين في الدول الأوروبية وبين البلاد ومن بقي فيها. لكنّ المسافات الممتدّة لا تمنع هؤلاء من عيش أيامهم على إيقاع الأحداث هناك.. في الوطن.
يقلقون ويتملّكهم الخوف على وقع تساقط القذائف، فيما يهدأون ويعرفون شيئاً من الطمأنينة خلال الهدن. على الرغم من أنّ الحظ حالفهم بالوصول إلى الضفة الأكثر أماناً في العالم، إلا أنّ شيئاً لا يبلسم جراح البلاد التي ما زالت مفتوحة في ذاكرة هؤلاء اللاجئين السوريّين ووجدانهم. ولعلّ أبرز ما يقوّي ارتباطهم ببلادهم على الرغم من المسافات، هو وجود عائلات وأقارب لهم هناك.
أخبار الوطن
كثيرة هي المصاعب والمشاغل التي يغرق فيها اللاجئون خلال السنوات الأولى من وصولهم إلى أوروبا، لكنّ أخبار الوطن تبقى تلاحقهم وهم يلاحقونها على الرغم من كلّ انشغالهم. بالنسبة إلى الكثيرين، الأخبار الآتية من سورية هي الهاجس الأكبر لهم في يومياتهم، وهي محور أحاديثهم اليوميّة مع أفراد عائلاتهم وأصدقائهم.
تحكي دجى أنّ والدَيها وكثيرين من أصدقائها وأقاربها ما زالوا في إدلب، "وأنا أعيش حالة قلق دائمة عليهم. أتابع الأخبار يومياً عبر التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، وقد اشتركت بكلّ الصفحات التي تنقل أخبار إدلب. أتابعها لحظة بلحظة، أتمعّن بتفاصيل الخبر وأتأكّد من أسماء الضحايا. كأنني أبحث عمّن أعرفه بينها". تضيف: "أحياناً أتلقى إشعارات خلال نومي، فاستيقظ لقراءة الخبر وحتى التعليقات. وأتحقّق من كلّ جديد عندما أستيقظ صباحاً وأتابع آخر المستجدات قبل النوم مساءً". وتشير إلى أنّها حين تشعر بالقلق، "أقضي ساعات وأنا أحاول الاتصال بأهلي للاطمئنان عليهم. وبعدما أطمئنّ، تعود الأفكار السوداوية لتدور في رأسي: ماذا لو سقطوا ضحيّة الضربة الجوية المقبلة؟".
تعجز دجى عن التخلّص من قلقها، وتقول: "الغريب في الأمر هو ما حدث قبل أسابيع عدّة. كنت أقرأ الأخبار ورأيت صورة رجل يحاول مساعدة ضحايا بعد غارة جوية. كان مغطى بالغبار. شعرت بأنّني أعرفه، لكنّني تحوّلت إلى صور أخرى. وبعد دقائق، أرسل أخي الصورة لي وسألني: هل تعرفين هذا الرجل؟ حينها عرفت أنّ من رأيته هو والدي وأنّني حاولت الكذب على نفسي حين رأيته أوّل مرة. وقد طمأنني أخي أنّه بخير وأنّه كان يقدّم المساعدة فحسب".
ظلّ سورية
يصادف الأطباء الذين يعملون في مخيمات اللاجئين السوريين في أوروبا مشاكل واضطرابات نفسية كثيرة يعاني منها هؤلاء الذين ما زالوا مرتبطين ببلادهم، إمّا بسبب وجود عائلاتهم فيها وإمّا بسبب الذكريات التي تلاحقهم. في تدوينة له، كتب الطبيب كونور كيني، العامل مع منظمة "أطباء بلا حدود" في مخيّم إيديوميني على الحدود اليونانية المقدونية، أنهم "وجدوا أنفسهم يتعاملون أكثر فأكثر مع الأضرار النفسية التي يخلّفها القصف في سورية. فالناس لا ينسون ما جرى معهم بعدما نجوا بحياتهم، والتجارب التي عاشوها تطاردهم وكأنّها ظلّهم".
وعن آخر حادثة شهدها، يروي كونور: "بلغت صرخاته مسمعي قبل أن أراه. كانت آتية من خلف جدران القماش في العيادة الميدانية. كان أربعة شبان يحملونه على بطانية فيما تنهمر الدموع من عينيه وهو يتلوّى ويصرخ بأسى. أسرعنا بوضعه على سرير الفحص، وكان واضحاً أنّ حالته طارئة. ظننت أوّل ما ظننت أنه يعاني من مشكلة تتطلب عملاً جراحياً كحصاة في الكلية أو ثقب في أمعائه نظراً لحالته. لكن بعدما فحصته، تبيّن أنّه كان يحاول ابتلاع لسانه ووقف نفَسه بإرادته. وكان مستوى الأكسجين في دمه قد بدأ ينخفض. أمسك كلّ من أصدقائه بأحد أطرافه للسيطرة عليه ومنعه من ركل ما في العيادة وإيذاء نفسه. كان من المستحيل أن يهدأ، وتعاظم اضطرابه وتعالى صراخه. شرح لنا أصدقاؤه بأنّ حمزة البالغ من العمر 22 عاماً، سمع للتوّ نبأ مقتل أخته في ضربة جويّة في سورية. فاستحوذ عليه الأسى هنا في إيدوميني، لدرجة أنّه حاول إلحاق الأذى بنفسه. عند وصولي، كنتُ أصدم بداية حين أرى مثل هذه الحالات، لكنّني أصبحت معتاداً عليها اليوم".
كوابيس
وصلت غيداء مع عائلتها إلى ألمانيا في بداية عام 2014. ومنذ اليوم الأول، راحت كوابيس الحرب تلاحقها ليلياً. تقول: "كأنّ الخوف والقصف قدر علينا. هربت وما زالا يلاحقانني. سنتان ولم أستطع التخلّص من هذه الكوابيس".
بدأت حكاية غيداء في عام 2013 في حيّ بستان القصر في حلب، حيث كانت تعيش عائلتها وخطيبها محمد. تحكي: "كنت واقفة على الشرفة أنتظر محمد الذي وعد بزيارتنا لتناول الغداء. لمحته من بعيد يشتري بعض الفواكه، فرحت أراقبه. فجأة سقط صاروخ ووقعت أرضاً، فيما راحت الشظايا تتطاير في كل مكان. مذعورة، وقفت ثم ركضت إلى الشارع أبحث عنه بين المصابين والجثث. بحثت ولم أجده. لم يجده أحد، فقد تحوّل إلى أشلاء".
هذه الحادثة أصابت غيداء بصدمة نفسية قوية وحوّلت حياتها إلى كابوس مستمر. وبعد ثلاث سنوات، تعيش في برلين حياة أقرب إلى الطبيعية، لكنّ المشهد لا يفارقها في منامها. تقول: "تارة أرى نفسي أتحوّل إلى شظايا، وفي أخرى أرى محمد، وأحياناً أرى أنّنا نهرب من الطائرة وهي تلاحقنا... نصعد وننزل ونختبئ، ثم تقصف". أصحو وأنا أبكي، أنظر من حولي ولا أعرف أين أنا، ثمّ أتذكر أننا في برلين وأنّني غادرت سورية وأنّ محمد مات".
تناقضات
عبد الله، البالغ من العمر 23 عاماً، لاجئ سوري يعيش في إحدى القرى الفرنسية. يشير إلى أنّه يعيش كتلة من التناقضات، ويروي أيامه الفرنسية السورية. يقول: "أعيش في إحدى القرى الفرنسية الهادئة، صحوت أمس على أصوات العصافير وأخبار المجازر في بلادي. أخذت حماماً دافئاً وتذكّرت شكوى أهلي في اليوم السابق من انقطاع الماء عن حلب. صعدت إلى الباص متوجّهاً الى الجامعة، وعندما فتحت صفحتي على فيسبوك، وجدت زملائي ينعون زميلنا صلاح. كلّ ما كنت أعلمه أنّه انضم إلى الثوار منذ فصلنا من الجامعة. صلاح الهادئ والخجول والمتفوق، استشهد. كان قائد لواء أيضاً. وصلت إلى الجامعة وجلست في القاعة، لكنّني لم أكن أعي كثيراً ما يحدث من حولي. صورة صلاح لم تغب عن بالي، كان يجلس إلى جانبي في المحاضرات. كيف ساقتنا الأقدار إلى هنا؟ أنا إلى فرنسا وهو إلى جبهات القتال؟ أنا أدرس وهو استشهد".
يكمل عبد الله أنّه "عند انتهاء المحاضرة، سألني صديقي المغربي: ما بك يا عبد الله، كنت شارداً طوال الوقت؟ هل حدث شيء سيّئ في سورية اليوم، قل لي، أنا أعرفك؟ رحت أفكّر من أين أبدأ، ثم قلت له: لا شيء. أنا بخير. خرجنا نتنزه في الحديقة مع زملائنا الطلاب الذين كانوا يضحكون ويمزحون. كانت أصوات القصف التي سمعتها في النشرة الصباحية ما زالت في أذني. حين اجتمعنا كان كلّ واحد منهم يفتح صفحته على فيسبوك، ويشارك نكتة منها أو أغنية. حين فتحتها، لم أجد أغنية واحدة ولا نكتة ولا حتى صورة جميلة. نحن السوريين صرنا نخجل من مشاركة هذه الأشياء على صفحاتنا، كأننا في حداد مستمرّ". يردف: "ليتني أستطيع الانسلاخ عن سورية لساعة واحدة فقط، فأذهب وأرقص معهم (أصدقاؤه)".
عجز
الشعور بالواجب تجاه الوطن لا يفارق مهند، الطبيب واللاجئ السوري الذي هرب مع عائلته الصغيرة من الحرب، بداية العام الماضي واستقرّ في هولندا. يخبر أنّه قبل رحيله، "عملت سنتين في مداواة النازحين مجاناً. كثيرون كانوا يسألونني: هل سوف تتركنا أنت أيضاً؟ كنت أجيب أنّني لن أفعل. لكنّني فعلت. خوفي على زوجتي وطفلتي غلبني". يضيف: "وهنا، أنا عاجز عن تقديم أيّ شيء لهم. أكثر ما أستطيع فعله هو التضامن على وسائل التواصل، وهذا يزعجني كثيراً".
ويشير مهند إلى أنّ "الناس هنا يعيشون في سلام وهدوء. أراهم يمشون ويلعبون الرياضة ويتنزهون. أتخيّل إخوتي وأولادهم بينهم، وليسوا محاصرين وتحت رحمة القذائف في غوطة دمشق حيث تضيق الحياة. لا يمكن لأحد هناك أن يتحرّك أكثر من أمتار حول المنازل، أمّا هنا فغابات شاسعة وأنهار وأراض زراعية تكاد تكون خالية من البشر". يتابع: "أفكّر أحياناً كطفل صغير لماذا لا يسمحون للنازحين بالعيش هنا بسلام؟ فالمكان يتّسع لكثيرين.. الأرض تتّسع للجميع".