على الخبير سقطت

21 ابريل 2020
+ الخط -
كان سيفويه القاص من الحكائين، لو امتدت به السنون لوجد فرصاً عريضة في برامج التوك شو، يستعمل حسَّ الدُّعابة في إيصال فكرته، ربما كان عاقلًا متحامقًا على طريقة أبي العلاء، وربما كان من الحمقى والمغفلين وفق ما أخبرني به أبو الفرج بن الجوزي.

ونقل لي ابن الجوزي عن أبي منصور الثعالبي أن سيفويه جلس يومًا في مجلس، وقد سأل سائلٌ عن معنى الغسلين في قوله تعالى (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِين)، ولم يَحِرْ الحاضرون جوابًا؛ فرفع سيفويه عقيرته بينما تدور عيناه في الجمع: على الخبير سقطت!

واشرأبت الأعناق لجوابٍ لم يعرفوه، وتنحنح سيفويه، وإمعانًا في التشويق- تذكّر أنه قاص- وقال: "لقد سألت عنه شيخًا من شيوخ الحجاز، منذ أكثر من ستين سنة (قالها ممطوطة وضغط حروفها)؛ فقال لي لا أعرفه". انفجر بعضهم ضحكًا، وتبرَّم آخرون وقال قومٌ إن سيفويه يهرف بما لا يعرف؛ فكيف يدعي أنه خبير؟!

على كل حال، استشهد سيفويه في مطلع جوابه بمثلٍ من أمثال العرب "على الخبير سقطت"، ولم يكن من كيسه؛ فلهذا المثل قصة في كتب الأمثال، وبه استشهد عدد من الصحابة الكرام، استشهدوا به في موضعه لا على الطريقة السيفويهية، منهم ابن عباس، وأم المؤمنين عائشة، وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين.


ففي صحيح الإمام مسلم عن ابن عباس أنه سئل عن البدنة إذا أَزْحَفَت (أعيت وعطبت)؛ فأجاب ابن عباس: "على الخبير سقطت" ثم أجاب، واستشهد بالمثل ذاته الفرزدق، حين سأله الحسين بن علي- رضي الله عنهما- لمَّا تقابلا، وكان الفرزدق يقصد البيت الحرام، والحسين يتجه إلى العراق؛ فسأل الحسينُ عن أحوال النَّاس في العراق، وأجاب الفرزدق: "على الخبير سقطت! قلوبهم معك، وأسيافهم مع بني أميَّة، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما دَرَ على معاشهم، وإن امتخضوا قلَّ الديانون منهم، والأمر ينزل من السماء"؛ فقال الحسين: صدقتني.

وقصة هذا المثل أن حارثة بن عبد العزيز العامري دخل في منافرة (مفاخرة ومنافسة ومُمَاجدة) مع مالك بن جُبير العامري، وهو من حكماء العرب؛ فسأل حارثة مالكًا عن أول من قُرِعت له العصا؛ فقال مالك على البديهة: "على الخبير سقطت، وبالحليك أحطت"، وهو أول من قاله؛ فأرسله مثلًا.

تقول بعض المصادر ومنها الزمخشري صاحب "المستقصى في أمثال العرب" إن اسمه مالك بن حَنى العامري، بيد أن أغلب المصادر- ومنها "مجمع الأمثال" للميداني، وأمثال أبي عبيد، وجمهرة الأمثال، والعقد الفريد- تثبت أنه مالك بن جُبير العامري.

يُضرب المثل للعالم بالأمر أي العارف به، يقوله المرء ممتدحًا نفسه واثقًا من إحاطته بالمسألة، وهذا لا يُناسب استشهاد سيفويه، إذ إنه لم يُحط بالخُبْر ولا بالخَبَر، وإنما دخل في نطاق من يهرف بما لا يعرف. أما من يملك أزِمَّة الأمر فيناسبه الاستشهاد بالمثل لتوكيد ما يخبر به، أو لترغيب السامع وتحريضه على الاهتمام وحفظ ما يُلقى إليه، وفيه تشويق مثلما قال الهدهد "أحطتُ بما لم تُحط به"؛ فاسترعى انتباه نبي الله سليمان.

في "لسان العرب" لابن منظور و"تاج العروس" للزبيدي: الخبير العالم بالأمر، صيغة مبالغة على وزن فعيل، والخُبْرُ- بضمّ الخاء وتسكين الباء- العلم، وسقطت أي وقعت وعثرت، عبَّر عن العثور بالسقوط؛ لأن عادة العاثر أن يسقط على ما يعثر عليه. وقريب من هذا المثل قول المرء ممتدحًا نفسه: على يديَّ دار الحديث، أنا ابن بجدتها، أنا جُذيلها المحكك وعذيقها المرجّب، أنا ابن كَدِّها وكَدَائِها، إن جَهِلْتُهُ لم أعرف غيره، أتُعْلِمُني بِضَبٍّ أنا حرشتُه؟

قريبٌ منه كذلك قول النابغة (هلا سألتِ بني ذُبيان ما حسبي إذا الدُّخان تَغَشَّى الأشمَطَ البَرِمَا/ يُخبركِ ذو عرضهم عني وعالمُهُم/ وليس جاهِلُ شيءٍ مثل ما عَلِمَ)، وقول ربيعة الأسدي (وسائلة تسائل عن أبيها/ فقلت لها وقعتِ على الخبير رأيتُ أباكِ قد أطلى ومالت/ عليه القشعمان من النسور). أما إن امتدح النّاس رجلًا أو وصفوه بالخبرة في أمرٍ قالوا: فلانٌ سِرُّ هذا الأمر، فلانٌ يعلم من أين تُؤكل الكتف، فلانٌ بؤبؤ هذا الأمر وابن بؤبئه. وفي ضده يقولون: هذا أمرٌ لم تقع لي به خِبرة، لم ألابسه ولم أمارسه، ولا أقطع بشيء من أمره، لم تبلغ إليه مداركي، وقد غابت عني معرفته.

فاسأل به خبيراً

ينقلنا الطاهر بن عاشور نقلة ماتعة، إذ يقارن بين قولهم "على الخبير سقطت"، وبين قوله تعالى "الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا"؛ فيقول: وهذا يجري مجرى المثل، ولعلَّه من مبتكرات القرآن نظير قول العرب (على الخبير سقطت)، يقولها العارف بالشيء إذا سئل عنه".

ثم يضيف ابن عاشور: "والمثلان وإن تساويا في عدد الحروف المنطوق بها؛ فالمثل القرآني أفصحُ لسلامته من ثِقَلِ تلاقي القاف والطاء والتاء في سقطت، وهو أيضًا أشرف لسلامته من معنى السقوط، وهو أبلغ معنى لما فيه من عموم كلِّ خبير، بخلاف قولهم على الخبير سقطت؛ لأنها إنما يقولها الواحد المعيّن.

والباء في قوله تعالى "فاسأل به" بمعنى عن، كقول علقمة الفحل (فإن تسألوني بالنِّسَاءِ فإنَّني/ خبيرٌ بأدواءِ النِّسَاءِ طَبيبُ)، ومن الأمثلة القرآنية في المعنى نفسه، قوله تعالى "وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير"، وقد جاءت هي الأخرى نكرةً للدلالة على العموم والشمول؛ فلا يُظَنُّ خبيرًا معيَّنًا.

سقطة الأصمعي

سأل هارون الرشيد يومًا عبد الملك بن قريب بن أصمع (الأصمعي) عن مسألة؛ فقال الأصمعي: على الخبير سقطت! وقبل أن يُجيب الأصمعي، صدمته جملة صكَّت سمعه، لم يَقُلها الرشيد، وإنما حاجبه (مدير مكتبه وسكرتيره الخاص) الفضل بن الربيع، إذ قال: أسقطَ الله أسنانك! أبمثل هذا تُخاطِبُ أمير المؤمنين؟! قال الأصمعي: هذه لُغة العرب.