27 ابريل 2016
على مسرح "عين الحلوة"
ربما تصلح المشاهد المثيرة، المتكرّرة في مخيم عين الحلوة، لأن تكون مادة عمل سينمائي مميز، يشتهر من خلاله كلٌ من المؤلف والمُخرج. يقصّ الأول حكاية مخيم بائس، أرهقته الأيام، وأوقعت الحروب والمحن، في وجهه، ندوباً عميقة لا تُمحى، واختلطت، في وقائع أيامه، مظاهر الخوف والقلق بأوهام الأمان والاستقرار، ثم احتشدت في أزقته، وفي زواريبه المغلقة، إلا من فتحاتها الوحيدة، تشكيلات المدجّجين بالسلاح، من آباء الجماجم والضباع والقعقاع، فانتعشت تهيؤاتهم، لكي يروا في المخيم عالمهم الشاسع الذي فيه الأتباع والمُريدون والمعجبون، وفيه المرأة مثنى وثلاث، والخصوبة، والرصاص الوفير، وسبطانات من كل عيار، وقاذفات معدّلة وأخرى نائمة على طرازاتها القديمة، وفيه الأفراح والمناسباتُ التي يتمنطق فيها "القبضايات"، كأنهم امتلكوا نواصي التاريخ، أو كأن المؤرخ ما زال يغمس قلمه في إناء وعودهم بتحرير فلسطين وسائر بلاد المسلمين، ويكتب.
ربما يجد المخرج السينمائي ضالته في اللقطات والمفارقات التي ليس لها مثيل. كانت هوليوود نفسها، المفتوحة عند الاضطرار على تخوم جارتها الكبرى لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا؛ تهيئ مواقع التصوير في نحو 65 كيلومترا مربعا، تُعينها على تخليق ميادين حربٍ عُظمى، وتستوعب "ماكيتات" مدنٍ هائلة الأحجام وجموع غفيرة من الجماهير. أما في مخيم عين الحلوة، المكتظ بنحو ثمانين ألف نسمة، فإن مساحته التي لا تتعدّى ألف متر مربع، لكنها، على ضيق مساحته بطل الحكاية: تفيض أوهام "المجاهدين"، فيظنون أن إمبراطوريتهم فيه، وأنه الملاذ الآمن للقتلة، وللخارجين على القانون، وللحالمين بأدوارٍ إقليمية مبهرة، ولمن تضاءلت أهداف جوسستهم إلى حجم بيضة، فظنوا أنهم سيوفّرون مقومات النصر للقوى الإقليمية البعيدة، عن طريق المخيم!
في تسمياتهم، امتشقوا تسمية الأجناد التي اخترعها الخليفة عمر في صدر الإسلام، عندما قسّم الخارطة إلى أقاليم عسكرية، وفق خطوط عرضية، الواحد صعوداً بعد الآخر، إلى ما بعد حدود تركيا الحالية، سمّاها أجناداً، آخذاً بعين الاعتبار أن الخطر البيزنطي يأتي من الشمال. هنا، ترتسم المفارقة في اللغة السينمائية: الناس قرفوا "الجُند"، والمكان ضيّق والحمار رفّاس. لذا إن فصاحة الجاهلي البديع، قس بن ساعدة، مخترع "أما بعد" مصطلحاً خالداً نفتتح به الكلام في رسائلنا؛ لم تعد تستميل غشيماً ولا حاذقاً. هنا، يصطدم الراضون من أولئك الصابرين على ضيق المكان، بطرفي الاشتباك الذي يلد الاشتباك: جحفل التغيير الكوني انطلاقاً من مخيم عين الحلوة، وجحفل مقاومة "الجند" و"العُصبة" و"فتح الإسلام"، ومعهم جحفل كلّ صرعة، لكي تدور عجلة الحياة على هواه، فيبقى له شرف السقاية.
في حكاية عين الحلوة، تتوفر كل عناصر الحركة (الأكشن) لإثراء الشريط السينمائي. الطرفان المشتبكان بالسلاح لا زالا في بالغ حماستهما، بل إن واحدهما يحسّ بأن شطب الآخر هو المعادل الموضوعي لإزالة العقبة الأخيرة قبل فتح القسطنطينية. في هذه الأثناء، يهجم الناس بالفؤوس والرفوش وأكياس الرمل، لإغلاق الطرق وتضييق هوامش الحركة، قاصدين وقف الاشتباك وكفّ أذى الرصاص الأعور. الناس تمتثل لناموس الحياة بل تأتمر بأمره. سرعان ما تتشكل الردمياتُ والسواتر الحجرية، ويتفاقم غضب الأهلين. المشتبكون خمس ساعات في جولةٍ واحدة، لم يتعرّضوا لأية إصابة، بينما أصاب رصاصهم الأبرياء من غير ذوي العلاقة!
لو أن الصديقين، الروائي والمخرج، اقتنصا من حكاية عين الحلوة، فكرة عمل سينمائي جريء، وقدّما من خلاله معالجةً ساخرةً أو رصينة، لما يجري في التنظيمات والتشكيلات والتجمعات القلقة أو المأزومة، ولكل ما هو مسكون في أوقاتنا، بالعُصاب والرّهاب؛ لقيل عنهما إنهما مشبوهان ويخدمان العدو.
بالطبع، يتفوّهون كأنهم هم الذين فوق الشبهات، ولا يخدمون طرفاً سوى الأمة التي يدافعون عنها على الثغور. لكنهم، في الواقع، يعلمون أن العدو هو الذي يريدنا أن نظل نتكتّم على عوراتنا ومخازينا، وعلى عيوبنا كلها، وأن لا نناقش أمراً لتصحيح حالٍ، أو تصويب وُجهة، وأن لا نضع نقطةً على حرف، لكي يظل الحابل يختلط بالنابل في كل شأن.
ربما يجد المخرج السينمائي ضالته في اللقطات والمفارقات التي ليس لها مثيل. كانت هوليوود نفسها، المفتوحة عند الاضطرار على تخوم جارتها الكبرى لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا؛ تهيئ مواقع التصوير في نحو 65 كيلومترا مربعا، تُعينها على تخليق ميادين حربٍ عُظمى، وتستوعب "ماكيتات" مدنٍ هائلة الأحجام وجموع غفيرة من الجماهير. أما في مخيم عين الحلوة، المكتظ بنحو ثمانين ألف نسمة، فإن مساحته التي لا تتعدّى ألف متر مربع، لكنها، على ضيق مساحته بطل الحكاية: تفيض أوهام "المجاهدين"، فيظنون أن إمبراطوريتهم فيه، وأنه الملاذ الآمن للقتلة، وللخارجين على القانون، وللحالمين بأدوارٍ إقليمية مبهرة، ولمن تضاءلت أهداف جوسستهم إلى حجم بيضة، فظنوا أنهم سيوفّرون مقومات النصر للقوى الإقليمية البعيدة، عن طريق المخيم!
في تسمياتهم، امتشقوا تسمية الأجناد التي اخترعها الخليفة عمر في صدر الإسلام، عندما قسّم الخارطة إلى أقاليم عسكرية، وفق خطوط عرضية، الواحد صعوداً بعد الآخر، إلى ما بعد حدود تركيا الحالية، سمّاها أجناداً، آخذاً بعين الاعتبار أن الخطر البيزنطي يأتي من الشمال. هنا، ترتسم المفارقة في اللغة السينمائية: الناس قرفوا "الجُند"، والمكان ضيّق والحمار رفّاس. لذا إن فصاحة الجاهلي البديع، قس بن ساعدة، مخترع "أما بعد" مصطلحاً خالداً نفتتح به الكلام في رسائلنا؛ لم تعد تستميل غشيماً ولا حاذقاً. هنا، يصطدم الراضون من أولئك الصابرين على ضيق المكان، بطرفي الاشتباك الذي يلد الاشتباك: جحفل التغيير الكوني انطلاقاً من مخيم عين الحلوة، وجحفل مقاومة "الجند" و"العُصبة" و"فتح الإسلام"، ومعهم جحفل كلّ صرعة، لكي تدور عجلة الحياة على هواه، فيبقى له شرف السقاية.
في حكاية عين الحلوة، تتوفر كل عناصر الحركة (الأكشن) لإثراء الشريط السينمائي. الطرفان المشتبكان بالسلاح لا زالا في بالغ حماستهما، بل إن واحدهما يحسّ بأن شطب الآخر هو المعادل الموضوعي لإزالة العقبة الأخيرة قبل فتح القسطنطينية. في هذه الأثناء، يهجم الناس بالفؤوس والرفوش وأكياس الرمل، لإغلاق الطرق وتضييق هوامش الحركة، قاصدين وقف الاشتباك وكفّ أذى الرصاص الأعور. الناس تمتثل لناموس الحياة بل تأتمر بأمره. سرعان ما تتشكل الردمياتُ والسواتر الحجرية، ويتفاقم غضب الأهلين. المشتبكون خمس ساعات في جولةٍ واحدة، لم يتعرّضوا لأية إصابة، بينما أصاب رصاصهم الأبرياء من غير ذوي العلاقة!
لو أن الصديقين، الروائي والمخرج، اقتنصا من حكاية عين الحلوة، فكرة عمل سينمائي جريء، وقدّما من خلاله معالجةً ساخرةً أو رصينة، لما يجري في التنظيمات والتشكيلات والتجمعات القلقة أو المأزومة، ولكل ما هو مسكون في أوقاتنا، بالعُصاب والرّهاب؛ لقيل عنهما إنهما مشبوهان ويخدمان العدو.
بالطبع، يتفوّهون كأنهم هم الذين فوق الشبهات، ولا يخدمون طرفاً سوى الأمة التي يدافعون عنها على الثغور. لكنهم، في الواقع، يعلمون أن العدو هو الذي يريدنا أن نظل نتكتّم على عوراتنا ومخازينا، وعلى عيوبنا كلها، وأن لا نناقش أمراً لتصحيح حالٍ، أو تصويب وُجهة، وأن لا نضع نقطةً على حرف، لكي يظل الحابل يختلط بالنابل في كل شأن.