30 أكتوبر 2024
على هامش "الانتفاضة" العراقية
فاجأت انتفاضة "الكهرباء" في العراق الطبقة الحاكمة، بانطلاقتها الأولى من البصرة التي تعتبر من حصة الأحزاب الشيعية النافذة، وفاجأتها بانتقالها بسرعة إلى أكثر من مدينة ومحافظة عراقية، حتى استقرت في ساحة التحرير في بغداد، على بعد بضع مئات من الأمتار من المنطقة الخضراء، وفاجأتها أكثر، حين اتسع حشدها، فلم يضم الشباب والطلبة والمثقفين فحسب، والذين وصفهم قائد مليشياوي بأنهم (أصحاب أجندة مشبوهة مرسومة من الخارج)، بل شمل الفئات الفقيرة والمسحوقة التي نفد صبرها، ولم يعد في وسعها المراهنة على ظهور "المهدي" الذي سيملأ الأرض عدلاً!
وكانت المفاجأة الأكبر في تجاوز مطلب الكهرباء إلى ما يرتقي إلى الخطوط الحمر، وبعضها وصل إلى حد المطالبة بحل البرلمان، واستقالة الوزارة، وإعادة كتابة الدستور، وحتى إسقاط "العملية السياسية" الطائفية برمتها، وقيام حكم مدني ديمقراطي.
لم تكن كل هذه المفاجآت في الحساب. لذلك، كانت ردود الأفعال منفعلة وقاصرة، وفيما يشبه فيلما كوميديا مضحكاً، بدت مشاهد تسابق المسؤولين الرسميين على محاولة ركوب موجة التظاهرات، وإظهار دعمهم المطاليب الشعبية، وإبراز أنفسهم رموز عفّة وطهر ونزاهة، وكأنهم ليسوا هم حيتان الفساد، وسرّاق المال العام الذين جثموا على صدور العراقيين، دزينة من السنين العجاف اليابسات، كلفت العراق خسارة مائة مليار دولار سنوياً.
وبدا مضحكا ظهور قادة مليشيات على الشاشات، وهم يحملون أعلاماً عراقية، وكأن غيرهم من رفع الرايات السود، ومزّق العراقيين، وصنفهم "أتباع الحسين" و"أتباع يزيد"، وأجّج الحروب والمنازعات الأهلية فيما بينهم، ورسم حدود الدم. وكان لافتاً أن تدعو المرجعية الشيعية رئيس الوزراء، حيدر العبادي، أن يتصدّى للفساد والمفسدين، محاولة بذلك التنصل من مسؤولية الحقبة الماضية، وامتصاص الغضب الشعبي، خصوصاً بعدما وصل إلى عقر دارها. (احتجاجات النجف وكربلاء). وبدت المرجعية وكأنها لا تعلم أن حيتان الفساد الكبار وسرّاق المال العام هم الذين يتخفون تحت عباءتها، ويستخدمون فتاواها لخداع الجمهور العام المسحوق، ويبيعون فقراء مدنهم الوهم بأنهم سينالون حقوقهم، عندما يظهر "المهدي".
وفي طرفة عين، انقلب الشياطين إلى ملائكة، ولم يتخلف أحد من المسؤولين، وبينهم حيتان الفساد أنفسهم، عن المطالبة بخطوات إصلاحية، ترفع الحيف عن المواطن الفقير، وتوفر الخدمات له، وتضمن محاسبة المفسدين ومعاقبتهم.
كل هذه المشاهد التي عاشها العراقيون، طوال الأسبوع الفائت، عكست خوف الطبقة السياسية من فقدان سلطتها، وضياع امتيازاتها، ومحاسبة الشعب لها على ما اقترفته من جرائم، وما غنمته من ثروات، بغير وجه حق. لذلك، تراها تسعى إلى إخفاء وجهها الأسود وأياديها الملطخة بالدم، ساعية إلى استرضاء بعض الفئات، لكسب دعمها، إلى حين مرور الموجة، ورهانها على الزمن، وعلى ذاكرة العراقيين المتعبة. تحوّل هذا الخوف إلى إحساس مباشر بالخطر، ما جعل السياسيين النافذين يسارعون إلى نسيان خلافاتهم، فالوقت ضيق، والمصيبة مشتركة.
وهكذا تداعوا إلى اجتماعات ولقاءات عاجلة، وتوافقوا على خطة إنقاذ لأنفسهم، سموها "حزمة إصلاحات"، وما يعيب هذه "الحزمة" الهجينة التي وصفت بالثورية أنها تناولت مسائل ثانوية، من قبيل إلغاء مناصب نواب رئيسي الجمهورية والوزراء، وإلغاء المخصصات الاستثنائية للرئاسات الثلاث، والسعي إلى حل مشكلة الخدمات، وتشكيل هيئة لمكافحة الفساد، وجاءت مسألة "إبعاد وظائف وكلاء الوزارات والمستشارين عن المحاصصة الحزبية والطائفية" مقحمة، لتكشف عن تجاهل مقصود لمشكلة ماثلة في الصميم، أكبر وأعمق من كل المشكلات التي يُراد وضع الحلول لها، وهي المتعلقة بالبنية الطائفية لنظام الحكم، والتي أفرزت "مؤسسات" أقرب ما تكون إلى مراكز قوى، ترهن المواطن لمرجعه الطائفي، ولهويته المذهبية، وتعطي "المرجعيات" الدينية سلطة الأمر والنهي، وهو ما عانى منه العراقيون طوال العقد الأخير. ودلل استناد العبادي إلى "توجيهات المرجعية" أنه ليس في نيته القطع النهائي مع النهج الطائفي، كما ليس بإمكانه التحرر من القيد الذي يربطه بحزب الدعوة، المتشدد في عقيدته وسلوكه. وهذا يعني، أيضاً، أن حلاً جذرياً لأزمات العراق لن يتحقق في المدى المنظور على الأقل، وأن أمام المنتفضين مساراً طويلاً وعاصفاً، عليهم مواصلته، لكي يتمكّنوا من إسقاط "العملية السياسية" الماثلة، وإنضاج عملية سياسية وطنية، تضمن العدل والحرية والديمقراطية للجميع.
لم تكن كل هذه المفاجآت في الحساب. لذلك، كانت ردود الأفعال منفعلة وقاصرة، وفيما يشبه فيلما كوميديا مضحكاً، بدت مشاهد تسابق المسؤولين الرسميين على محاولة ركوب موجة التظاهرات، وإظهار دعمهم المطاليب الشعبية، وإبراز أنفسهم رموز عفّة وطهر ونزاهة، وكأنهم ليسوا هم حيتان الفساد، وسرّاق المال العام الذين جثموا على صدور العراقيين، دزينة من السنين العجاف اليابسات، كلفت العراق خسارة مائة مليار دولار سنوياً.
وبدا مضحكا ظهور قادة مليشيات على الشاشات، وهم يحملون أعلاماً عراقية، وكأن غيرهم من رفع الرايات السود، ومزّق العراقيين، وصنفهم "أتباع الحسين" و"أتباع يزيد"، وأجّج الحروب والمنازعات الأهلية فيما بينهم، ورسم حدود الدم. وكان لافتاً أن تدعو المرجعية الشيعية رئيس الوزراء، حيدر العبادي، أن يتصدّى للفساد والمفسدين، محاولة بذلك التنصل من مسؤولية الحقبة الماضية، وامتصاص الغضب الشعبي، خصوصاً بعدما وصل إلى عقر دارها. (احتجاجات النجف وكربلاء). وبدت المرجعية وكأنها لا تعلم أن حيتان الفساد الكبار وسرّاق المال العام هم الذين يتخفون تحت عباءتها، ويستخدمون فتاواها لخداع الجمهور العام المسحوق، ويبيعون فقراء مدنهم الوهم بأنهم سينالون حقوقهم، عندما يظهر "المهدي".
وفي طرفة عين، انقلب الشياطين إلى ملائكة، ولم يتخلف أحد من المسؤولين، وبينهم حيتان الفساد أنفسهم، عن المطالبة بخطوات إصلاحية، ترفع الحيف عن المواطن الفقير، وتوفر الخدمات له، وتضمن محاسبة المفسدين ومعاقبتهم.
كل هذه المشاهد التي عاشها العراقيون، طوال الأسبوع الفائت، عكست خوف الطبقة السياسية من فقدان سلطتها، وضياع امتيازاتها، ومحاسبة الشعب لها على ما اقترفته من جرائم، وما غنمته من ثروات، بغير وجه حق. لذلك، تراها تسعى إلى إخفاء وجهها الأسود وأياديها الملطخة بالدم، ساعية إلى استرضاء بعض الفئات، لكسب دعمها، إلى حين مرور الموجة، ورهانها على الزمن، وعلى ذاكرة العراقيين المتعبة. تحوّل هذا الخوف إلى إحساس مباشر بالخطر، ما جعل السياسيين النافذين يسارعون إلى نسيان خلافاتهم، فالوقت ضيق، والمصيبة مشتركة.
وهكذا تداعوا إلى اجتماعات ولقاءات عاجلة، وتوافقوا على خطة إنقاذ لأنفسهم، سموها "حزمة إصلاحات"، وما يعيب هذه "الحزمة" الهجينة التي وصفت بالثورية أنها تناولت مسائل ثانوية، من قبيل إلغاء مناصب نواب رئيسي الجمهورية والوزراء، وإلغاء المخصصات الاستثنائية للرئاسات الثلاث، والسعي إلى حل مشكلة الخدمات، وتشكيل هيئة لمكافحة الفساد، وجاءت مسألة "إبعاد وظائف وكلاء الوزارات والمستشارين عن المحاصصة الحزبية والطائفية" مقحمة، لتكشف عن تجاهل مقصود لمشكلة ماثلة في الصميم، أكبر وأعمق من كل المشكلات التي يُراد وضع الحلول لها، وهي المتعلقة بالبنية الطائفية لنظام الحكم، والتي أفرزت "مؤسسات" أقرب ما تكون إلى مراكز قوى، ترهن المواطن لمرجعه الطائفي، ولهويته المذهبية، وتعطي "المرجعيات" الدينية سلطة الأمر والنهي، وهو ما عانى منه العراقيون طوال العقد الأخير. ودلل استناد العبادي إلى "توجيهات المرجعية" أنه ليس في نيته القطع النهائي مع النهج الطائفي، كما ليس بإمكانه التحرر من القيد الذي يربطه بحزب الدعوة، المتشدد في عقيدته وسلوكه. وهذا يعني، أيضاً، أن حلاً جذرياً لأزمات العراق لن يتحقق في المدى المنظور على الأقل، وأن أمام المنتفضين مساراً طويلاً وعاصفاً، عليهم مواصلته، لكي يتمكّنوا من إسقاط "العملية السياسية" الماثلة، وإنضاج عملية سياسية وطنية، تضمن العدل والحرية والديمقراطية للجميع.