ثمّة "ركبة" و"شمرة" و"كناوة" تستلزم وضع الحبق فوق الشماغ حتى يظهر الغناء والرقص متقنين. هذه الأجساد والأفواه التي تلعب تنتمي إلى منطقة باني شبه الصحراوية الواقعة في الجنوب الشرقي للمغرب. وتقدّر المساحة التي يعيشون فيها بـ 25 ألفاً و925 كيلومتراً مربعاً، وتتسم بثقافة مزيجة وفريدة من نوعها، واضحة وغير واضحة، أصلية أو اختفت جذورها وقد نمت على جانبيّ وادي درعة وفي الواحات. نتحدث هنا بالخصوص عن واحة طاطا التي تقع في حدود منطقة باني وقد تجذرت فيها ثقافات عدة لاختلاف سكانها والشعوب القادمة إليها.
عاش الإنسان الأول في المنطقة قبل تسعة آلاف سنة قبل الميلاد ونقش رموزه على صخور ما زالت آثارها توجد بواحة طاطا. وقد أرّخ من خلالها طريقة عيشه التي بدأها بالصيد والقنص وظهرت بأشكال عدة، ثم مرحلة إمساكه بذيل البقرة التي تدلل على الزراعة وتدجين الحيوانات ثم عصر اكتشاف المعادن. وانتشرت نقوش الإنسان الأول تحديداً في منطقة "تاغموت" شمال طاطا وبمناطق أخرى، وشكّلت بوجودها متحفاً طبيعياً برياً، لكن انقطعت أخبار الإنسان الأوّل ولم يعلم أحد لأي شعب كان ينتمي حتى مرحلة ظهور الدولة الأمازيغية في منطقة باني التي حكمت شمال أفريقيا قبل مجيء الإسلام. وفي هذه الفترة تحديداً، يقول الباحث الاجتماعي، إبراهيم أوبّلّا: "نزح قوم من البور الأفارقة من مناطق السافانا في أفريقيا وتبعهم اليهود الفارّون إلى مصر ثم شمال أفريقيا، وبدأ التشكل البشري الجديد عبر هذه الموجات إضافة إلى موجات القبائل العربية الوافدة من الجزيرة العربية والشام؛ محدداً هويّة المنطقة التي ما زالت سائدة حتى اللحظة".
لم تستقر القبائل العربية أو الجيوش التي مرّت إلى الأندلس في الجنوب كما يوضح أوبّلا، لكن مع مجيء قبيلتي بني هلال وبني سليم في القرن السابع الهجري، استقر منهم "أولاد جلّال" الذين استوطنوا سفوح جبال باني، وتميزوا حتى اليوم بلهجتهم وزجلهم إلى جانب سهولة تعلمهم للغة الأمازيغية وتمزغن بعضهم. أما الدوبلاليون فهم من معقل الحسانيين الذين وفدوا على المنطقة خلال القرن التاسع عشر آتين من الساقية الحمراء حاملين معهم بذور الثقافة الحسانية والصحراوية".
الثقافة الثالثة التي ازدهرت في المنطقة ثقافة أفريقية بحتة مثلّها ذوو البشرة السوداء الوافدون في فترات مختلفة يعود أقدمها إلى ما قبل الإسلام، ونشط وجودهم كعبيد في عهد المرابطين والسعديين وفي عهد مولاي إسماعيل، وانصهروا تماماً في الثقافتين العربية والأمازيغية مما قضى على ثقافتهم الأصل، إلّا ما ندر منها وتوجد على شكل غنائيّ في قرية "تيزونين". على واد درعة.. جلست الثقافات وتحدثت على ضفاف واد درعة، تلاقى هؤلاء الناس وشربوا من ذات النهر، فتمازجت الأفكار والثقافات ونتجت ثقافة واحدة مركّبة ومعقّدة، وأنتجت أشكالاً جديدة من الفنون والتراث، بعضها حافظ على أصوله وظلّ يستحضرها حتى اليوم، مما ينفي مقولة إن هناك ثقافة واحدة فقط تجمع الناس في منطقة طاطا، ظلّ التنوع سيّد الموقف، وظلّ تأثير الثقافات ببعضها هو العامل الرئيسي في إنتاج ثقافة مركبة تدلل على المنطقة وتعبّر عن هويتها. من بعض هذا التركيب أو التأثير، ما زلنا ننبهر اليوم بسماع شعر عربي نبطي تقوله قبيلة "أولاد جلّال" ويُلقى بأشكال فنيّة مختلفة بعد امتزاجه بالتراث الأمازيغيّ، فقد أبدعت القبيلة بغناء "الركبة" وهو في مضمونه شعر عربي ولكن أداء الرقصات أمازيغيّ، فضلاً عن الأشكال الفنية التي تنتمي إلى الجنوب الأمازيغيّ الصحراويّ أي الطوارق كـ"الشمرة والكدرة" أخذها الدوبلاليون وأضافوها إلى فنونهم.
يضاف إلى هذه الأشكال فنون أمازيغية وأفريقية غنية في أصنافها، تعكس حالة الانقسام الصعبة التي تعرضت لها هذه الفنون، أو تعكس حالة الإبداع الفني الفريد الذي تشهده المنطقة، وظهرت صوتا وجسدا فيما يُسمى "أحواش".