في زيارة قريبة لأحد الفصائل التي كانت من أول من حارب تنظيم "داعش" (في بلدة مسكنة في ريف حلب الشرقي أواخر 2013)، أخبرني مرافقي، وهو رجل أربعيني علمته الحرب أكثر من المشايخ والجامعات، ويحمل في حديثه النبرة الشعبية الغاضبة للمرح الريفي، والّذي أصبح صديقي فيما بعد، أن هذا التنظيم استطاع خداع أعدائه من فصائل الثورة السورية (السلفية منها تحديداً)، وذلك بأن يصفوه بتسمية دينية هي الخوارج، وليس كمجرد مجموعة من قطاع الطرق، و(شتائم أخرى)، مما أضعف موقفهم أمام عناصرهم، وأمكن التنظيم من الاستمرار في المزايدة عليهم دينيّاً، وأتاح له هامشاً من الشرعية الفقهية حتى لدى خصومه، الذين حسم هو سلفاً موقفه منهم بكونهم جميعاً مرتدّين حكمهم الذبح.
ولعل في هذا التحليل ما يتجاوز الحكمة الشعبية، إلى لعبة التنافس على الرأسمال الرمزي ضمن الحقل الجهادي (إذا استخدمنا لغة بيير بورديو)، وهو الرهان الذي استطاع التنظيم كسبه، لا ضد خصومه من الثوار السوريين أو العراقيين وحسب، بل حتى ضد تنظيم القاعدة نفسه، والذي بدأ ينزاح عن قيادة "الجهاد العالمي" إعلاميّاً على الأقلّ، وذلك دون أن يمتلك هذا التنظيم مرجعية فقهية متينة أو علماء معروفين يسندونه بفتاواهم، وإنما اكتفى بأخذ منطق السلفية الجهادية ضد خصومها إلى مآلاته القصوى،مما أتاح له إمكانية أكبر على كسب الجمهور المتعطش سلفاً للثقة التي يمنحها تكفير الآخر واحتكار الحق والقناعة بأننا الغرباء والطائفة الناجية.. إلخ. حتى لو كان هذا التنظيم براغماتيّاً جدّاً في توسعة جيشه الذي يضم ضباطاً من الجيش العراقي والسوري كما يضم تجار مخدرات وكثيراً من عناصر وقادة أعدائه الذين "أسلموا" فانضمّوا إليه واستدخلوا ضمن منظومته، عدا عن استخدامه المتزايد للإغراءات المالية.
وبعيداً عن هذه السياسة الداخلية، فإن سياسة التنظيم الخارجية تجاه خصومه كانت إغراقهم في اتهاماته هو، ومزايداته هو، وإشكالاته هو، لينحصروا في إطار الرد عليه، الذي اتخذ ذات سمة الاتهامات ويدور في حلقتها، ولكن الفارق أنه اتخذ لنفسه موقع المركز سلفاً في دائرة النقاش هذه، يمكن قراءة هذا أوضح ما يمكن في ميثاق "الجبهة الإسلامية" مثلاً، والذي كُتب بلغة دفاعية تردّ على اتهامات تنظيم داعش وتتوجه بالخطاب نحو عناصره قبل عناصر هذه الفصائل نفسها، الإشكال الذي كانت الكتائب "الشعبية" والتي لم تتأدلج متحررة منه، وغير واقعة تحت سلطته الخطابية.
يشبه هذا سلوك السلطة العربية مع معارضيها، الإسلاميين منهم خاصة، حيث يجدون أنفسهم في محاولتهم التحرر من الهيمنة السياسية للسلطة يُخضعون أنفسهم تحت هيمنتها الرمزية، حين يحاولون كسب شرعيتهم ضدها بالرد على اتهاماتها نفسها ضدهم، حول الإيمان بالديمقراطية أو الحريات أو التعددية، وكأن شرعية هذه الأنظمة لم تكن بالقضاء على كل ذلك أساساً.
صورتنا مع الغرب والنقاش المعاد دوماً تتعلق بـ"اللعبة" ذاتها، فرغم الردود الكثيرة التي أخذها الرد على استيهامات الغرب الاستشراقية حول شرق الجنس والخرافة والدين العدوّ، وارتباط الاستشراق اللصيق بالاستعمار كما بيّن إدوارد سعيد، وإن كان ذلك فيما بعد القرن السادس عشر، حسب الأطوار المتعددة لصورة الشرق غربيّاً كما تتبعها تييري هانتش في كتابه المميز (الشرق المتخيل)، فإن الفارق الآن أن التغير في صورة الشرق غربيّاً لم يعد يعني الغرب وحده، بل صار يعني الشرق نفسه، واتهام الإسلام بكونه دين العنف والإرهاب أصبح الشغل الشاغل (سواء بالرد عليه أو الاستجابة له) للمسلمين في العالم، حتى لو كان هؤلاء أنفسهم أبناء مناطق نُكبت بمئات آلاف الضحايا من قبل جيوش الدول ذاتها، التي تروج الصورة الإرهابوية عنهم، وليس اختراعاً حديثاً أن نبرر قتل ضحايانا بكونهم أعداءنا القادمين، دون أن يخلو خلق هذا العدو المهدّد من مصالح اقتصادية واستراتيجية، بعيداً عن التفسير الديني المؤامراتي للسياسة الغربية.
لدى حادثة شارلي إيبدو، وقع الأمر نفسه، 12 قتيلاً تحت عنوان "الإرهاب" سيكونون أكثر استدعاء لتضامن الإنسانية من 12 ألفاً أو مليوناً ليس لهم عنوان سوى الحياة العارية أمام آلة القمع والقتل، المسلمون أنفسهم دولاً وجامعات وعلماء وجدوا أنفسهم مجتمعين في الحفل العالمي المفاجئ لذمّ الإرهاب (وهو من حوادث اجتماعهم النادرة)، مضطرين إلى أن يقدموا صك براءة وإدانة مزدوجاً، ومتعاطفين اضطراراً مع الدعاية نفسها المستخدمة لتبرير إخضاعهم عبر حكومات قمعية أو حروب دولية (هل من ضرورة هنا لتكرار المكرر وإعلان موقف آخر من الحادثة؟!).
إن شرط امتلاك الحلول هو بداهةً امتلاك المشاكل، أن تكون مشاكلنا هي مشاكلنا، لا مشاكل الآخرين، وامتلاك سلطة الأرض أو السياسة أو الفكر، لا يمكن أن يتحقق دون امتلاك سلطة الخطاب قبل ذلك، أو على الأقلّ بالتحرر من الدوران في منطقة الهيمنة الخطابية لمن نريد التغلب على هيمنتهم.
في هذا يقول أستاذ الفلسفة التونسي، د.فتحي المسكيني: "نحن لسنا سوى كثرتنا الخاصة، ولذلك نحن لا يمكن أن نحلّ مشاكلنا إلا بقدر ما تكون مشاكلنا حقّاً، أي من الداخل. علينا أن نستحق مشاكلنا".
*سورية