هل أصبح العالم مُرعبًا وبشعًا إلى درجة تجعل المرء يتخلّى عن أحلامه؟ هل يجوز الحديث عن موت التاريخ، كخطاب فوكوياما، أمام جرائم تُرتَكب بحقّ الإنسان العربي؟ أسئلة كهذه تُطرح أثناء مُشاهدة "موصل 980" للعراقي علي محمد سعيد، الغائص في جحيم واقع عربي، صنعه تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
فتاة إيزيدية تحاول الهرب من "داعش" في الموصل، فترة سقوطها في قبضته، أثناء ما عُرف بـ"مجزرة الإيزيديات" (تعرّضت نساء كثيرات للاغتصاب والبيع كسبايا في أسواق خاصة بالجنس، أدارها "داعش" في العراق ومدن سورية عديدة). تصوير الفيلم مخاطرة كبيرة، رغم توفير الجيش العراقي الحماية لفريق العمل. الأخطر كامنٌ في تعرّض ممثلين وممثلات لإطلاق الرصاص عليهم من قنّاصة الجيش العراقي، بسبب ارتداء زيّ التنظيم.
مَشَاهد الفيلم مستلّة من بؤس الخراب المستشري في المنطقة وبشاعته، ما جعل علي محمد سعيد يُبقي على الديكور الطبيعي، المتدثّر بالحجر والغبار، وبالأصابع والرؤوس المقطوعة من جرّاء انفجارات تعرّضت لها الموصل آنذاك.
في لقاء مع "العربي الجديد"، قال علي محمد سعيد إنّ صعوبات التصوير "استثنائية"، وإنها وضعت فريق العمل تحت "ضغط هائل". أضاف: "وصلنا إلى الموصل بعد تحريرها من تنظيم "داعش" بفترة بسيطة. كانت المدينة مُحاصرة بطوقٍ أمني عسكري صارم، لا يُسمَح لأحد بالدخول إليها، بسبب استمرار المناوشات بين الجيش العراقي وبعض مقاتلي "داعش" الخارجين من الأنفاق. بعد مفاوضات استمرّت شهورًا مع قيادة الجيش العراقي، حصلتُ على الموافقة، فدخلنا إلى الجانب الأيمن من المدينة، بالقرب من الجامع النوري "الحدباء". المدينة مُحطّمة بالكامل. شوارعها مليئة بجثث مقاتلي "داعش". سيارات مفخّخة، بعضها لم ينفجر، مركونة على الطريق. الكهرباء مقطوعة تمامًا، فصوّرنا نهارًا، على ضوء الشمس. ذات يوم، انفجرت عبوتان ناسفتان بالقرب منّا، أسفرتا عن إصابة جنود مكلّفين بحمايتنا إصابات بالغة. نجونا بأعجوبة من موت مُحقَّق. مع هذا، أصرّ الفريق على إنجاز الفيلم. انتهينا من العمل بعد 6 أيام".
عن سرّ العنف المُمارَس على المرأة الإيزيدية، أوضح محمد سعيد: "ليس سرّا أن مجتمعنا العربي ذكوري، لا تنال المرأة فيه حقوقها الكاملة، بل تتعرّض لعنف جسدي ومعنوي. تتفاوت البلدان العربية في اضطهادها المرأة، بحسب النظام السياسي لكل بلد، ومرجعياته الدينية والعسكرية والاجتماعية. مع هذا، ما تعرّضت له المرأة الإيزيدية لا يوصف ولا يُتخيّل. وبسبب الجهل العربي بهؤلاء الناس، تمّ التعتيم على المحنة العاصفة بمجتمعهم، وعلى كيفية تشريد العوائل، وإنْ كانت لهذه العوائل سبايا لدى التنظيم، أو "أسرى المجهول" في مخيمات النزوح".
أضاف أن هناك 3 آلاف فتاة إيزيدية اختُطفن للبيع في أسواق الجنس: "هذه كارثة إنسانية لم يحدث مثلها منذ قرون، لكن العالم يتجاهل محنتهنّ، ويتغاضى عن مساعدة اللواتي لا مُعيل أو حاميَ لهنّ، بعد أن قتل عناصر التنظيم رجالهنّ أمامهنّ. ما حدث عار علينا جميعًا كبشر أولاً، وكعراقيين ثانيًا".
في الفيلم سمة بارزة، بدأت تطبع أفلامًا عربية قصيرة، تتمثّل في انفصال الفيلموغرافيا عن مفهوم التخيّل، باعتباره نمطًا خاصًا بإنتاج رموز ودلالات فكرية وجمالية. ما يثير الانتباه، انجذاب هذه التجارب الجديدة إلى تصوير الواقع بتفاصيله الصغيرة، ما يجعل أساليب التصوير لصيقة بمسام الفيلم الوثائقي، فتُقتَبس العوالم "المتخيّلة" من الواقع، من دون تركيبه وفقًا لرؤية جمالية ومشروع فني سينمائي، فتُصبح أفلامًا واقعية وبسيطة.
يقول علي محمد سعيد عن "الواقع الفجّ" في المشهد السينمائي العراقي الجديد: "أتّفق تمامًا مع هذا الرأي. أظنّ أنّ لعنة الحرب تطارد صنّاع الأفلام، الذين لن يتخلّصوا منها لفترة ستطول. الحرب العالمية الثانية منتهية منذ 74 عامًا، لكنْ، في كلّ عام، هناك عشرات الأفلام المتعلّقة بتلك الحقبة، التي غيّرت وجه أوروبا والعالم إلى الأبد. نحن أيضًا سنبقى نروي قصصنا من خلال تلك التيمة، ونجترح المعنى من سرديات الحرب، ونحاول ترميم الخراب الذي خلّفته في أرواحنا. مع الوقت، سنتخلّص من هذا الإرث، ونُخلص إلى صناعة سينما قوامها التخيّل، وسحره الأخّاذ".
اقــرأ أيضاً
وعن الصمت في الفيلم، وما يوحيه من دلالات فنية وجماليات للصورة، قال إنّ "الحرب احتلّت الفيلم كلّه، واستلبت أصوات الناس وصراخهم، فلم يعد هناك من قيمة في المدينة سوى الصمت والضياع اللذين يلاحقان الفتاة الإيزيدية، والخوف من مدينة ينمو الموت في شوارعها، والأمل بالنجاة يتلاشى مع كلّ خطوة تخطوها فلعلّ عبوة ناسفة تنفجر بك. هذا كلّه منح الصمت قيمة، وجعله حالة واجبة في هذا الفضاء المدجَّج بالموت".
بتناول النهاية المفتوحة للفيلم، قال سعيد: "في الجلسة النقدية الأولى في برلين، بعد انتهاء العرض، سألني مُشاهد: هل نجت الفتاة؟ أجبته: لا أعلم. هذا جوابي لكلّ من يسألني عن النهاية المفتوحة. ربما عثرت الفتاة الإيزيدية على سيارة مفخّخة تحتمي بها من مقاتلي "داعش" الذين يسعون إلى القبض عليها. لكن آلافاً مثلها لم يجدن شيئًا للاختباء فيه من بطش الذين اغتصبوهنّ مرّات ومرّات. ربما تنجو الفتاة، لكن مئات الإيزيديات قُتلن ودُفنّ في مقابر جماعية بعد اغتصابهن. النهاية المفتوحة جرحٌ مفتوحٌ لشعب ذُبح بطريقة همجية ووحشية، ولا مثيل لها، بينما اكتفى العالم بالفرجة حتى انتهاء المذبحة".
وماذا عن انطباعات المجتمع العراقي بعد مشاهدته الفيلم؟ "لم يعرض في العراق. عرضه الدولي الأول كان في "مهرجان برلين السينمائي" (الدورة الـ69، المُقامة بين 7 و17 فبراير/ شباط 2019)، ثم سيُعرض في أوروبا وأميركا. في برلين، التقيت إيزيديين هاربين إلى ألمانيا بعد أحداث الموصل. وكثيرون منهم شاهدوا الفيلم، وكانوا سعداء أنّ صوتهم مسموع، وأنّ هناك قصصًا تروي محنتهم وعذاباتهم، لا سيما مع هذا الصمت الدولي المريب تجاه قضيتهم. أنا راضٍ عن مساهمتي ولو قليلاً في تشجيع المجتمع على السؤال عن قصص هؤلاء الفتيات. راضٍ لتحريضي مشاهدين كثيرين على الرغبة في مساعدتهنّ. أتمنّى فعليًا أن يتحرّك المجتمع الدولي لمساعدة الناجيات والعائدات من السبي على الاندماج في المجتمع، والعودة إلى الحياة".
فتاة إيزيدية تحاول الهرب من "داعش" في الموصل، فترة سقوطها في قبضته، أثناء ما عُرف بـ"مجزرة الإيزيديات" (تعرّضت نساء كثيرات للاغتصاب والبيع كسبايا في أسواق خاصة بالجنس، أدارها "داعش" في العراق ومدن سورية عديدة). تصوير الفيلم مخاطرة كبيرة، رغم توفير الجيش العراقي الحماية لفريق العمل. الأخطر كامنٌ في تعرّض ممثلين وممثلات لإطلاق الرصاص عليهم من قنّاصة الجيش العراقي، بسبب ارتداء زيّ التنظيم.
مَشَاهد الفيلم مستلّة من بؤس الخراب المستشري في المنطقة وبشاعته، ما جعل علي محمد سعيد يُبقي على الديكور الطبيعي، المتدثّر بالحجر والغبار، وبالأصابع والرؤوس المقطوعة من جرّاء انفجارات تعرّضت لها الموصل آنذاك.
في لقاء مع "العربي الجديد"، قال علي محمد سعيد إنّ صعوبات التصوير "استثنائية"، وإنها وضعت فريق العمل تحت "ضغط هائل". أضاف: "وصلنا إلى الموصل بعد تحريرها من تنظيم "داعش" بفترة بسيطة. كانت المدينة مُحاصرة بطوقٍ أمني عسكري صارم، لا يُسمَح لأحد بالدخول إليها، بسبب استمرار المناوشات بين الجيش العراقي وبعض مقاتلي "داعش" الخارجين من الأنفاق. بعد مفاوضات استمرّت شهورًا مع قيادة الجيش العراقي، حصلتُ على الموافقة، فدخلنا إلى الجانب الأيمن من المدينة، بالقرب من الجامع النوري "الحدباء". المدينة مُحطّمة بالكامل. شوارعها مليئة بجثث مقاتلي "داعش". سيارات مفخّخة، بعضها لم ينفجر، مركونة على الطريق. الكهرباء مقطوعة تمامًا، فصوّرنا نهارًا، على ضوء الشمس. ذات يوم، انفجرت عبوتان ناسفتان بالقرب منّا، أسفرتا عن إصابة جنود مكلّفين بحمايتنا إصابات بالغة. نجونا بأعجوبة من موت مُحقَّق. مع هذا، أصرّ الفريق على إنجاز الفيلم. انتهينا من العمل بعد 6 أيام".
عن سرّ العنف المُمارَس على المرأة الإيزيدية، أوضح محمد سعيد: "ليس سرّا أن مجتمعنا العربي ذكوري، لا تنال المرأة فيه حقوقها الكاملة، بل تتعرّض لعنف جسدي ومعنوي. تتفاوت البلدان العربية في اضطهادها المرأة، بحسب النظام السياسي لكل بلد، ومرجعياته الدينية والعسكرية والاجتماعية. مع هذا، ما تعرّضت له المرأة الإيزيدية لا يوصف ولا يُتخيّل. وبسبب الجهل العربي بهؤلاء الناس، تمّ التعتيم على المحنة العاصفة بمجتمعهم، وعلى كيفية تشريد العوائل، وإنْ كانت لهذه العوائل سبايا لدى التنظيم، أو "أسرى المجهول" في مخيمات النزوح".
أضاف أن هناك 3 آلاف فتاة إيزيدية اختُطفن للبيع في أسواق الجنس: "هذه كارثة إنسانية لم يحدث مثلها منذ قرون، لكن العالم يتجاهل محنتهنّ، ويتغاضى عن مساعدة اللواتي لا مُعيل أو حاميَ لهنّ، بعد أن قتل عناصر التنظيم رجالهنّ أمامهنّ. ما حدث عار علينا جميعًا كبشر أولاً، وكعراقيين ثانيًا".
في الفيلم سمة بارزة، بدأت تطبع أفلامًا عربية قصيرة، تتمثّل في انفصال الفيلموغرافيا عن مفهوم التخيّل، باعتباره نمطًا خاصًا بإنتاج رموز ودلالات فكرية وجمالية. ما يثير الانتباه، انجذاب هذه التجارب الجديدة إلى تصوير الواقع بتفاصيله الصغيرة، ما يجعل أساليب التصوير لصيقة بمسام الفيلم الوثائقي، فتُقتَبس العوالم "المتخيّلة" من الواقع، من دون تركيبه وفقًا لرؤية جمالية ومشروع فني سينمائي، فتُصبح أفلامًا واقعية وبسيطة.
يقول علي محمد سعيد عن "الواقع الفجّ" في المشهد السينمائي العراقي الجديد: "أتّفق تمامًا مع هذا الرأي. أظنّ أنّ لعنة الحرب تطارد صنّاع الأفلام، الذين لن يتخلّصوا منها لفترة ستطول. الحرب العالمية الثانية منتهية منذ 74 عامًا، لكنْ، في كلّ عام، هناك عشرات الأفلام المتعلّقة بتلك الحقبة، التي غيّرت وجه أوروبا والعالم إلى الأبد. نحن أيضًا سنبقى نروي قصصنا من خلال تلك التيمة، ونجترح المعنى من سرديات الحرب، ونحاول ترميم الخراب الذي خلّفته في أرواحنا. مع الوقت، سنتخلّص من هذا الإرث، ونُخلص إلى صناعة سينما قوامها التخيّل، وسحره الأخّاذ".
وعن الصمت في الفيلم، وما يوحيه من دلالات فنية وجماليات للصورة، قال إنّ "الحرب احتلّت الفيلم كلّه، واستلبت أصوات الناس وصراخهم، فلم يعد هناك من قيمة في المدينة سوى الصمت والضياع اللذين يلاحقان الفتاة الإيزيدية، والخوف من مدينة ينمو الموت في شوارعها، والأمل بالنجاة يتلاشى مع كلّ خطوة تخطوها فلعلّ عبوة ناسفة تنفجر بك. هذا كلّه منح الصمت قيمة، وجعله حالة واجبة في هذا الفضاء المدجَّج بالموت".
بتناول النهاية المفتوحة للفيلم، قال سعيد: "في الجلسة النقدية الأولى في برلين، بعد انتهاء العرض، سألني مُشاهد: هل نجت الفتاة؟ أجبته: لا أعلم. هذا جوابي لكلّ من يسألني عن النهاية المفتوحة. ربما عثرت الفتاة الإيزيدية على سيارة مفخّخة تحتمي بها من مقاتلي "داعش" الذين يسعون إلى القبض عليها. لكن آلافاً مثلها لم يجدن شيئًا للاختباء فيه من بطش الذين اغتصبوهنّ مرّات ومرّات. ربما تنجو الفتاة، لكن مئات الإيزيديات قُتلن ودُفنّ في مقابر جماعية بعد اغتصابهن. النهاية المفتوحة جرحٌ مفتوحٌ لشعب ذُبح بطريقة همجية ووحشية، ولا مثيل لها، بينما اكتفى العالم بالفرجة حتى انتهاء المذبحة".
وماذا عن انطباعات المجتمع العراقي بعد مشاهدته الفيلم؟ "لم يعرض في العراق. عرضه الدولي الأول كان في "مهرجان برلين السينمائي" (الدورة الـ69، المُقامة بين 7 و17 فبراير/ شباط 2019)، ثم سيُعرض في أوروبا وأميركا. في برلين، التقيت إيزيديين هاربين إلى ألمانيا بعد أحداث الموصل. وكثيرون منهم شاهدوا الفيلم، وكانوا سعداء أنّ صوتهم مسموع، وأنّ هناك قصصًا تروي محنتهم وعذاباتهم، لا سيما مع هذا الصمت الدولي المريب تجاه قضيتهم. أنا راضٍ عن مساهمتي ولو قليلاً في تشجيع المجتمع على السؤال عن قصص هؤلاء الفتيات. راضٍ لتحريضي مشاهدين كثيرين على الرغبة في مساعدتهنّ. أتمنّى فعليًا أن يتحرّك المجتمع الدولي لمساعدة الناجيات والعائدات من السبي على الاندماج في المجتمع، والعودة إلى الحياة".