"ذكرياتي كلّها هنا، وسط هذا الشعب. عدت ليسير في جنازتي الجماهير الذين أحبّوني ولم ينسوني"، بهذه الكلمات اختتم الفنان العالمي الراحل عمر الشريف، مقابلة أجراها "العربي الجديد" مع الراحل مطلع العام الحالي. ربما كان يحس أن أجله قد اقترب، وفضل أن يختتم حياته في بلده الذي أحب.
والتقت الزميلة مروة عبد الفضيل الفنان الراحل على هامش افتتاح الدورة الثانية لمهرجان المسرح العربي في دورته الثانية والثلاثين التي أقيمت في المعهد العالي للفنون المسرحية. "العربي الجديد" يعيد نشر المقابلة، تكريماً للفنان الراحل.
وعند سؤاله عن سبب عودته إلى القاهرة بعد غياب طويل. أشار الشريف إلى أنّ غيابه المستمر عن مصر لن يمنع حبّه لها، قائلاً: "يظل حب مصر في داخلي، فأنا عاشق ترابها وتفاصيلها وناسها والأحلام التي حقّقتها على هذه الأرض".
وتابع: "ذكرياتي كلّها هنا، وسط هذا الشعب. عدت ليسير في جنازتي الجماهير الذين أحبّوني ولم ينسوني. عدت لأعيش وسط المصريين، فعلى الرغم من كل الأزمات التي عاشوا فيها ها هم مبتسمون. نعم، هم متعبون ولكن متفائلون". وتساءل: "كيف لي أن أنتظر الموت في فرنسا ولن يحضر عزائي سوى الغرباء، والذين ليس بيني وبينهم حب وعشرة ودم"!
غيابه عن مصره لم يمنعه من متابعة أحداثها من خلال النشرات الموثوق بها، قائلاً: "كنت أكره بعض برامج "التوك شو" التي تبني جماهيريتها على أساس الضوضاء والقلق والصراخ بين ضيوفها، فمثل هذه الأفعال تصيبني بالتوتر الشديد، وأنا رجل عجوز، كبرت وأبحث عن موسيقى هادئة تريح أعصابي، عن كتاب شيّق أتصفّحه، ولا أملك طاقة على التوتر من جديد".
وأوضح الشريف أنّ في فترة غيابه عن مصر عُرض عليه بعض الأعمال، لكن بعدما قدّم آخر مسلسل له، "حنان وحنين" الذي لم ينجح، قرّر التوقف عن التمثيل تماماً والاعتزال ليعيش مع نفسه. "لا أخفي عنكم، يقارب عمري الآن 84 عاماً، ما يعني أنّ ذاكرتي لم تكن مثلما كانت في شبابي. "أن أحفظ سيناريو سيكون صعباً عليّ، كما أني إذا حفظته فسأبذل جهداً إضافياً في ذلك، فما الداعي؟ أنا أكثر فنان وقف أمام الكاميرات وعاش عمراً في الاستوديوهات، وحان وقت الانسجام والراحة والعيش بعيداً عن صخب الفن، فحان وقت المزيد من الهدوء".
وأشار عمر إلى أنّ ظهوره في بعض الفعاليات الفنية، يعود إلى أنّ بينه وبين الفن عشرة وذكريات حلوة ومرّة، وهي محفورة في داخله. "كم كنت سعيداً عندما قابلت أحبائي النجوم محمود عبد العزيز ونور الشريف ويحيى الفخراني، لا تتخيلوا نظرة الحب والاشتياق التي وجدتها في عيونهم لي، هذه هي فعلاً مصر".
وعلّق على حضوره مؤخراً العرض المسرحي "بعد الليل"، بالقول: "شاهدت مصر باختصار من خلاله. فعلى الرغم من كمّ الوجع الموجود بالعرض، إلّا أنّي شعرت أيضاً ببعض التفاؤل، إذ حمل العرض في بعض مشاهده نظرة تفاؤلية لمصر القادمة".
خلال الحديث مع الشريف، لا بدّ من تذكر سيدة الشاشة العربيّة فاتن حمامة، إذ سارع الشريف إلى توضيح عدم زواجه بعدها، قائلاً: "كانت "الحب كله"، مَن يتزوج فاتن لا يقتنع بأي امرأة أخرى. وبصدق شديد، قلبي أُغلق بعدها، لكن لم نتحدث منذ فترة طويلة. وكنت أسأل عنها في فترة مرضها الأخيرة، فلا تنسوا أنّ بيننا ولداً، طارق، وهو مؤنسي وكل حياتي الآن".
وعن سبب نهاية قصّة الحب القويّة، أشار الشريف إلى أنّه باختصار، كانت له أحلام عالمية وكان لديه عروض كثيرة في هوليوود، وعندما طلب منها السفر معه للعيش خارج مصر، رفضت معلنة رغبتها البقاء في بلدها.
وكان للشريف موقف مميّز عن علاقته بالتلفزيون وعالم التكنولوجيا. فهو يشاهد التلفزيون عندما يكون وحده، لكنّه يستمتع بالقراءة أكثر. "لا علاقة لي بالإنترنت، أشعر بأنّه عالم خيالي، خصوصاً هذا الذي يُطلق عليه اسم فيسبوك. لا أحبه، أشعر بأنّه عالم زائف وكاذب. وعندما أسمع الشباب يتحدّثون عن هذا العالم الافتراضي، أشعر أنّ حياتهم أصبحت تتلخص كلها فيه. برأيي، أنّ التواصل المباشر الحقيقي مع الأصدقاء أفضل من هذا الموقع الذي يجبرك على ارتداء قناع وتكون من دون قصد كاذباً في بعض الأحيان.
وقبل التعبير عن مشاعره بعد وفاة مديرة أعماله المخرجة إيناس بكر، أشار عمر إلى أنّ بكر كانت مديرة متطوّعة، ولم تكن تتقاضى أجراً لأنّها كانت تحبّه. وعن فقدانها أجاب: "شعرت أنّ ركناً أساسياً من حياتي انهار. كانت همزة الوصل بيني وبين مصر. كانت تحبني بصدق وتخاف عليّ وتحذرني من الوقوع في فخوخ تصريحات قد تحسب عليّ، وأنا كنت أثق بها بشكل غير عادي، رحمها الله".
واسترسل قائلاً: "في الفترة الأخيرة، فقدت الكثير من أصدقائي سواء في فرنسا أو مصر، وفقدت كذلك صديقي الحبيب أحمد رمزي الذي أفتقده بشدة، وكم كنت أتمنى أن أصل مطار القاهرة ويكون في استقبالي ونعيش معاً سنواتنا المتبقية، فكان مثلي وحيداً، كنا سنؤنس وحدتنا معاً، لكنّه سبقني ومات".
لا يعلم الجميع أنّ عمر لا يقتني سيارة أبداً، وتعليقاً على هذا الموضوع الذي أضحكه، أجاب: "لن أمتلكها في يوم من الأيام، فأنا أكره القيادة وأكره الزحام ويجعلني متوتراً. لذا، لا أجد أي مشكلة في ركوب التاكسي، والتحدّث مع السائق. ولمن لا يعرف السائقين، فهم أرشيف كامل عما يجري في البلد، فأستمتع بالحديث معهم وأشعر أني أشاهد نشرة أخبار مفصلة، لكنّها صادقة أكثر.
لا يشاهد الشريف السينما الحاليّة، ويجهل حتى الأفلام المعروضة. وعندما يشاهد أفلامه لا يحزن أبداً، موضّحاً السبب: "عشت شبابي أكثر من أي شخص آخر، عشته كما يقال بالطول والعرض، وكل مرحلة لها حلاوتها، فلماذا أحزن! شبابي كان للمرح والحياة والفن والتمثيل والشقاوة، والآن للهدوء والراحة والسكينة، أي أنّ المرحلتين فيهما ما يؤهّلني لئلا أشعر بأي حزن".
وأنهى عمر متوجّهاً بحديثه إلى جمهوره، بالقول: "فعلاً كنت أفتقد مشاعرهم المحبّة والصادقة. فالمشاعر المصرية حقيقة ليس بها زيف ومصالح، يحبون الشخص في الله. أمّا في الدول الأوروبية، فكثيراً ما يبحثون عن المعارف للصداقة، وللمصالح الشخصيّة، ولكن في مصر لم أشعر بذلك على الإطلاق، فحب المصريين صادق".