بعد إنشاء كيان استعماري في فلسطين على أساس أسطوري غير حقيقي، سعت الصهيونية عبر عقود إلى أن يتقمّص الفلسطيني الحالة ذاتها، فبعد اقتلاعه من مكانه قسراً عبر نفيه من أرضه، عُمد إلى إحلال واقع جديد محلّ الأصلي، أي إن الصهيونية سعت إلى جعل الفلسطيني في مكان اليهودي في علاقته مع المكان.
استناداً إلى هذه الخلفية، افتتح أستاذ النقوش والكتابات القديمة، عمر الغول، محاضرته المعنونة بـ "فلسطين.. حرب الذاكرة" التي قدّمها مساء السبت الماضي في "منتدى الفكر الاشتراكي" في عمّان، منطلقاً من قرار "الوكالة اليهودية" إنشاء لجنة تساعد المستوطنين على اختيار أسماء المستوطنات التي كانوا يؤسّسونها عام 1922.
يذهب الباحث الفلسطيني الأردني إلى أن النخب الفلسطينية، في المقابل، كرّست جلّ جهودها واشتغالاتها على تفكيك التاريخ التوراتي الذي اعتمده الرحّالة الغربيون إلى فلسطين في القرن التاسع عشر، ومن بعدهم المهاجرون المستعمِرون إلى فلسطين بعد قيام الحركة الصهيونية أواخرَ القرن نفسه، من أجل "إيجاد صلة تاريخية متخيَّلة" تربطهم بفلسطين.
يرى الغول أنه بدلاً من إعادة كتابة التاريخ في القرنَين التاسع عشر والعشرين عبر التوثيق العلمي الدقيق للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والديني والتعليمي، ذهبت هذه النخب إلى التاريخ القديم لتفكيك المرويّات التوراتية، متغافلةً عن أن نتائج الكشوفات الأثرية والدراسات التاريخية تُشكّل - مهما كانت خلاصاتها حول أعراق وديانات من سكنوا المنطقة - إرثاً للفلسطيني في إطار نسيجه الاجتماعي المستقرّ والحيّ والفاعل في المكان، لا للغرباء الطارئين عليه.
يُشير صاحب كتاب "دراسات في مخطوطات البحر الميت" (2012) إلى أن المتغيّر الأوّل برز بعد احتلال فلسطين عام 1948، حين هُجِّر الفلسطينيّون من مدنهم وقراهم وهُدم بعضها، وانقطعت علاقتهم عملياً بالأماكن التي كانوا يسكنونها، فلم تعد علاقتهم بالمكان واقعاً معاشاً، بل أصبحت جزءاً من الماضي. وفي المقابل، بدأ المستعمر الذي حلّ محلّهم باستحداث سياقاته الخاصّة في المكان.
الابتعاد زمانياً وفيزيائياً عن المكان أدّى، بالضرورة، إلى إضعاف العلاقة به وبمفرداته اليومية، بحسب الغول، الذي يعتقد بأن بروز القضية الفلسطينية كقضيّة عامّة، أعاد صياغة العلاقة من منظور سياسي، لتتوسّع دائرتها من المكان الخاص لتشمل فلسطين كلّها، بوصفها وطناً سليباً يُحنُّ إليه، وتُراد العودة إليه، ونشأ في هذه الأثناء جيل جديد خارج فلسطين، فلم يعرفها مباشرةً، لكنه في الوقت نفسه لم ينسها خلافاً لما توقّعه العدو؛ إذ نقل الجيل السابق صورتها وأخبارها إليه، فجاءت معرفته بفلسطين عمومية، قليلة التفاصيل، حلّت محلّ التجربة المُعاشة فيها مقادير مختلفة من الخيال.
يقول المحاضر: "في المحصّلة، انتقل الفلسطيني من مرحلة الاستذكار المباشر لفلسطين إلى مرحلة الحنين إلى الماضي الجميل لما عاشه فيها، أو سمعه عنها، خصوصاً أن الماضي بدا للناس زمناً أجمل من واقع النزوح القاسي في المخيّمات وخارجها. وعبَّر الفلسطيني عن حنينه هذا من خلال تعلّقه بلوازم الماضي من لباس وطعام وأغان شعبية".
وعلى الرغم من الدور الهامّ الذي تولّاه هذا الاهتمام بالتراث الشعبي في إبقاء فلسطين حاضرةً في وجدان الأجيال اللاحقة، إلا أنه شكّل في الوقت نفسه بديلاً عن الاتصال الحقيقي بالمكان الذي لم يعد ممكناً، مضيفاً: "بما أن الغياب عن المكان استمر، تعمَّق هذا الفاصل بين المكان كما كان فعلاً، وبين صورته كما تراها الأجيال الحالية من الفلسطينيّين، بحيث تزايدت حصّة "الحكاية" على حساب "التجربة"، حتى كادت تحلّ محلّها تماماً في غير ما قليل من الأحوال".
يُنوّه الغول إلى أن "النتيجة هي صياغة بعضِهم صلةً غير حقيقية بتاريخ فلسطين وجغرافيّتها، معوّضاً بذلك عن النقص في المعلومات الناتج عن البعد عن وطنه وتاريخه. والمثال الصارخ على هذه الصلة بـ"المكان غير الموجود"، هو تعريب اسم مدينة "تل أبيب" باسم "تل الربيع"؛ فهذه الترجمة صحيحة من العبرية إلى العربية. لكن فلسطين لم تعرف في تاريخها مكاناً اسمه "تلّ الربيع"، بل بُنيت المستعمَرة على أرض جرداء كانت تُسمّى "كرم الجبالي"، وما كان يُمكن أن ينشأ هذا "الابتداع" لمكان غير موجود لو أن معرفة الفلسطيني بتاريخ فلسطين وتاريخ بلداتها كانت مكتملة".
ويلفت إلى أن المستوطنين من جمعية "أحوزة هبَّيت" الذين أسّسوا مستعمرة "تل أبيب" جنوبي مدينة يافا عام 1909 على أرض عربية، استجلبوا لها اسمها الحالي من التاريخ اليهودي القديم، لاقترانه في الفكر اليهودي بمفهوم الغربة والعودة؛ إذ إن "تل أبيب" اسم أطلقه اليهود على ذلك الموقع الذي أنزلهم فيه البابليون يوم سبوهم إلى هناك بعد احتلالهم القدس في عام 586 قبل الميلاد".
يخلُص المحاضر إلى أن "الفلسطيني نهج، بذلك، نهجاً مشابهاً لنهج المستوطن الصهيوني قبل قرن من الزمان، عندما ابتدع صلةً تاريخية زائفة بالمكان الفلسطيني، ليسوّغ لنفسه الإقامة فيه، مع الفارق بينهما، وهو أن الفلسطيني فعل ذلك جهلاً بتاريخه القريب، في حين فعل المستوطن الصهيوني الأمر نفسه بسبب أن لا تاريخ له في فلسطين".
بحسب الغول، سيفضي استمرار الاحتلال إلى مزيد من الضعف في العلاقة بين الفلسطيني ومكانه، ما سيستدعي التعويض عن العلاقة المباشرة بمجموعة من الإجراءات تكفل علاقة حقيقية وبنَّاءة مع الماضي، يلزمها طرح سؤال: ماذا نؤرّخ في فلسطين؟ والذي تفرض إجابته التوثيق في ثلاثة اتجاهات؛ التراث المادي المتعلّق بالبيت والسور والمضافة وأدوات الإنتاج، والتراث غير المادي المتّصل بطقوس الزواج والعزاء والمواسم وغيرها، والتاريخ الشفهي المتضمّن القصة المحكية عن المكان.
ترجمةُ ذلك على الأرض يفصّلها المحاضر بالتوثيق العلمي الدقيق للتاريخ الاجتماعي للمواقع الفلسطينية بأبعاده كلها، لأن الجوانب الاجتماعية هي التي تسجّل تاريخ المكان بوصفه حيّزاً إنسانياً تفاعلياً، وتنبغي الاستعانة في هذا المجال بالدراسات الإثنوغرافية المتعلّقة بتاريخ المواقع الفلسطينية في جوانبها الاجتماعية، خصوصاً تلك الأعمال التي كُتبت في القرنَين التاسع عشر والعشرين حتى عام 1948.
يُضاف إلى ما سبق توثيق التاريخ الاقتصادي، من ملكية الأراضي، وطبيعة الاقتصاد، من زراعي ورعوي وتجاري، مع بيان العلاقات التجارية الداخلية والخارجية، والتاريخ الديني، سواء من حيث الطوائف، أو المذاهب، أو الممارسات، والعلمي عبر رصد المؤسّسات التعليمية وحصر أسماء الذين حازوا درجاتهم العلمية، والسياسي من خلال رصد التوجّهات السياسية قبل 1948 في المدن والقرى، والعضوية في الأحزاب والجمعيات والمنتديات السياسية.
نحن ومدوّنة العدو
استعرض عمر الغول (الصورة) يومياتٍ ونصوصاً يكتبها إسرائيليون للتعبير عن أبسط ممارساتهم في المدن والبلدات التي يحتلّونها، ما يستدعي الانتباه إلى الأريَحية التي يتمتّع بها العدو في دراسة المكان وتوثيقه أدباً وفنّاً، لأنه ببساطة يعيش فيه، مقابل الحالة المعقّدة التي يعيشها الفلسطيني وتتطلّب منه مزيداً من الاستذكار والمعرفة والجهد ليحفظ علاقته بمكان لا يسكنه، ويُحيل إلى سؤال أكبر: كيف نتعامل مع ذاكرة المستعمر؟