09 نوفمبر 2024
عندما تلتقي رغبات النّظام وآمال المعارضة في الجزائر
على الرّغم من وصف الحياة السيّاسية في الجزائر بأنها رتيبة، إلا أنّها تشهد، أحياناً، حراكًا يبشّر بوجود نيّة ما، لنشر وعي التّغيير بأدواتٍ متاحةٍ، تسمح بإثارة نقاش، وفتح باب للمفاوضات غير المباشرة بين سلطةٍ تعيش بمنطق البقاء ومعارضة تأمل في إحداث قابليّة للتّغيير في ذلك المنطق، ثم فتح الباب، مستقبلاً، بمناسبة الرّزنامة الانتخابية المنتظرة، لهذا التّغيير المأمول.
يمكن اعتبار رسالة "مجموعة الـ14"، المنادية بعدم ترشّح الرّئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة، جزءاً من هذا الحراك المتضمّن تغيير طريقة التفكير والعمل داخل منظومة السياسة العامة للبلاد، بهدف الذهاب إلى "جمهورية ثانية"، بأدواتٍ، إجراءاتٍ، نصوصٍ، ونخبة تتسّم، كلّها، بالإجماع، وتحوز القبول لدى الرأي العام الذي عليه أن يختار بين ما يعرض عليه من برامج وشخصيّات في سبيل تجسيد ذلك الأمل المتمثّل تغيير بوصلة الاتّجاه إلى إقرار مشروع الدّولة النّاشئة في حدود زمنية منظورة.
يمكن القول، هنا، إن المشهد السيّاسي لهذا الحراك لا تصنعه فقط هذه الرّسالة، بل تشارك فيه أقلامٌ تكتب، مجتمع مدني يعبّر، ونخبة لا تتوقّف عن المناداة بهذا التّغيير، وهو مناط أية حياة سياسيّة تتسّم بالحركيّة، مع خطّ سير عامّ بطابع التداول على السّلطة، وبمؤشّر تجسيد البرامج، ورضا الرأي العام من عدمه، أو هكذا المفروض أن تكون الحياة السياسيّة.
تشترك السّلطة والمعارضة الجزائريتان في هذا الحراك باتّجاهين متناقضين، إلى الاستقرار على ما هو موجود أو إلى ما هو مطلوب ومأمول. وكلا الاتّجاهين وجهان لعملة واحدة، يطلق عليها في عرف السيّاسة "التّفاوض المجتمعي للتداول على السلطة"، إقرارًا لـ"عقد اجتماعي جديد". وفي هذا الإطار، تريد السّلطة، من خلال ما تعرضه، الإبقاء على الأوضاع كما هي، معتبرة أنّ المغامرة بالتّغيير يتضمّن مخاطر، منها ما هو مرفوض داخليا، ومنها ما هو غير محبذ خارجياً.
على المستوى الداخلي، أي تغيير لا يمكن القبول به إذا كان بقصد تغيير النظام، وليس داخله، فالتغيير لا يمكن أن يحدث إلا بوتيرة، بمضمون ورزنامة تتحكّم السّلطة في مخارجها، وهو المعمول به منذ عقود في الجزائر، إضافة إلى أن التّغيير لا يجب أن يشمل التخلّي عن منظومة الحكم برمّته، بل ترميمه من الدّاخل بإصلاحات وصفت وتوصف بالتدرّجية والفوقية، تفسح فيها المجال للمشاركة في صنع القرار في دوائر ضيّقة، من دون تلك التي تبقى حصرية "سيادية" بنخبةٍ دون غيرها، هي في الحكم، ولا تراهن على ما يمكن أن يسحب مجالات منه إلاّ وفق ما تريده. وبرز هذا العرض إلى الوجود، غداة مظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 1988، وقبلته المعارضة آنذاك، وحاولت التعامل معه على أنه تدرجي إلى غاية التفاهم/ التفاوض على قواعد التحول إلى الديمقراطية، بإجرائية التداول على السلطة في انتخابات نزيهة. وقد أدّى فتح الباب لجرعة تغيير، قيل إنها غير محسوبة، آنذاك، إلى انفتاحٍ غير مدروس، وانتهى إلى عشرية حمراء بآلاف من الضحايا وحرب أهلية ضروس، أتت على الانسجام المجتمعي. والأهم بالنسبة للجميع في الجزائر أن الجميع يختزن ذلك الدرس في ذاكرته، ويستخدمه كيفما شاء، تحقيقاً لمصالحه.
وفي الجزائر معارضتان، ليبرالية وإسلاموية، وكلتاهما تهدفان إلى تغيير ديمقراطي. ولكن، بحكم ما أفضت إليه التجربة المذكورة، تريدان وتعملان وفق منهجية تفاوضية تلتقيان في بعض نقاطها وتفترقان، في الوقت نفسه، في كثير من أشكال ذلك التغيير ومضامينه. ولا يمكن الحديث عن المنهجيتين، من دون التعريج على حدود التغيير الذي تطالب به كلتا المعارضتين، لأن المسماة المعارضة الليبرالية تضع حدا لا يمكن تجاوزه في حصول ذلك التغيير، وهو عدم فوز الإسلاميين في أيٍّ من الانتخابات. ويتذكّر الجميع كيف تم تسيير الفترة التي تلت إعلان نتائج انتخابات 1991 التي فاز فيها إسلاميو جبهة الإنقاذ، المحظورة فيما بعد، وهي الانتخابات التي أفضت إلى تكوين "جبهة إنقاذ" مقابلة، وإلى وقف المسار الدّيمقراطي وحبس آلاف الإسلاميين، وانطلاق موجة العنف نحو عشر سنوات.
بالنسبة للإسلاميين، لا يجب أن تصل حدود التغيير، أيضاً، لمن هم في السّاحة، إلى تغيير النظام، وإنما الاندماج فيه وإحداث تغييرات "شكلية" من الداخل. ولذلك كانت هذه المعارضة مشاركة في تيار التحالف مع السلطة، رفقة حزبي النّظام، جبهة التّحرير والتجمّع الدّيمقراطي.
وفي المعارضتين أحزاب وشخصيات تطالب بتغيير كامل للنظام، وفق إجرائية دستورية – سياسية. وقد عملت السلطة، في العشريتين الماضيتين، على منع هؤلاء من التعبير، بل عملت، أيضاً، على تنظيم عمليات "انقلابٍ علمية"، داخل الأحزاب التي يترأسونها، على غرار الذي حدث للزعيم الإسلامي، عبدالله جاب الله، مرات. ويدخل ذلك، كله، في إطار رسم إدراك لدى النخبة السياسية بأن ثمّة حدوداً للتغيير لا يجب تجاوزها، ولا حتى المطالبة بها تحت طائلة عودة ما تختزنه الذاكرة الوطنية، بشأن تغييرٍ غير محسوب المخارج والعواقب، كاد أن يعصف بالبلاد برمتها. وقد جاء ذلك مرسوماً، بحق، من خلال صور "حتى لا ننسى" تذكيرا لمن عايش، وتعريفا لمن لم يعرف، من الجيل الجديد، تلك العشرية الحمراء.
وعلى الرّغم من كلّ ذلك الخلاف، إلاّ أن المعارضة تعمل، ظرفيا، وخصوصا عند قرب المواعيد الانتخابية، لتحقيق أهدافٍ محدّدة كما في الأعوام الثلاثة الأخيرة، من خلال تنسيقية جمعت شتات تلك المعارضة. ولكن، بسبب أيديولوجيات ومواقف متناقضة، تتناغم، أحيانا مع استراتيجيات السلطة في بث مسار "فرّق تسد"، فإنها لا تلبث في إظهار تناقضاتها، وتعطيل مسار التنسيق لإحداث التغيير، إلى إشعارٍ تريده السلطة بعيدا قدر الإمكان.
ويعبّر العرضان عن رغبة ملّحة للتّغيير، وإن اتسمّ أحدهما بحساب المكاسب والخسائر، وبمنهجية محدّدة تتضمن البقاء في الحكم، أو فسح المجال لمشاركة محسوبة، في حين تتضمّن إرادة المعارضة مطالب تغييرٍ، فهمت أنها لا يجب أن تتعدّى حدودا معينة. وبالتالي، يتضمن عرضها مفاوضات بمشاركة تدرّجية، مع التّركيز على أن قدرات الجزائر، إن استغلّت بطريقة فعّالة، يمكن أن تشكّل نموذجاً لبناء مشروع قوّة ذاتية في المغرب العربي، وفي الضفة الجنوبية للمتوسط، بما يكفل مكانة "تحت الشمس" للجميع: للنظام، للمعارضة، للشعب وللجزائر، دولة ناشئة وقوية.
يتضمن العرضان، على الرغم مما يبدو ظاهرياً، نقاط التقاء في منهجية التغيير، وفي مضمونه، لأنّ الجميع يتحدّث بلغةٍ أصبح يعي مراميها السياسية، كما أن العالم الذي كانت النظم تتشدق فيه بالتسلطية لم يعد موجوداً، الآن، بسبب عولمة وسائل الاتصال وبلوغ الشعوب درجة وعي سياسي، أتاح الانفتاح على العالم رؤيته عياناً، بل وأتاح، أيضاً، إمكانية الاقتراب من الاستمتاع به، لتجسيد منظومة حقوق وواجبات، تحمل مسمّى "العقد الاجتماعي المواطني". إنها الثقافة السياسية المعولمة التي تتيح الحلم بالتغيير والمطالبة به من الشعوب حتى العربية.
على هذا الأساس، انطلق النّظام في عرض إصلاحاتٍ بضغط الشّعب، مرتّين. غداة أحداث أكتوبر/ تشرين الأول 1988، وغداة انتفاضة الزيت في يناير/ كانون الثاني 2011. وعلى الرغم من أن العرض كان محدوداً، تدرّجياً وبطيئاً، إلا أنه بدا خطوة في الطريق الصّحيح لفرض منهجية التغيير، خصوصاً أن السّلطة لم تشأ استغلال أموال النفط لإحداث ثورة اقتصادية، تنقل الجزائر من "الريع" إلى "الإنتاج". وبالتالي، بمجرّد حدوث أزمة أسعار في السوق النفطية الدولية، تنكمش آلية شراء السّلم الاجتماعي. ويمكن، آنذاك، للمعارضة استغلال الظرف، للانطلاق في مفاوضاتٍ جديدةٍ، لعرض أكثر ملاءمة لمنهجية التغيير، بمضمون أجود وتدرجية أسرع، لتحوّل أعمق للنظام نحو الديمقراطية.
المهمّ، هنا، أن الجميع متفق بأن العالم تغير، وأن منظومة الحكم ليست صالحة في الوقت الرّاهن، وقد قال الرئيس بوتفليقة، في حملته الانتخابية لعهدته الثانية، إن المشعل يجب أن يمرّر إلى الأجيال الجديدة. وذلك في إطار الاعتراف بوجوب إحداث التغيير بأدوات ذاتية، بدلا من القادمة من الخارج، لتحول المشهد من مطالبات بإحداث التحول الديمقراطي إلى مشاريع لتهديم الدولة، أو ما تعرف بالثورات المضادة.
يعترف الجميع في الجزائر بحتمية التغيير، لكن الجميع أيضاً، يختلفون بشأن منهجية إحداثه. وهنا نقاط الالتقاء التي على الجميع استثمارها بمناسبة ما ينتظر البلاد من مواعيد انتخابية فاصلة، على غرار الانتخابات الرئاسية في 2019. وعلى هذا، يمكن للجميع، كما في مناسبات فاصلة، الاتفاق على الاجتماع لإنتاج مخارج مناسبة للأزمة السياسية في الجزائر، بإجرائية معروفة سبق اقتراحها غداة الاستقلال، وهي الجمعية التأسيسية، للاتفاق بشأن نص دستوري، تليها انتخابات للمؤسسات، كالرئاسة والبرلمان.
يمكن، الآن، إرساء منهجية العمل التغييري بالتفكير في إحداث التحول نحو الديمقراطية، من خلال الجمهورية الثانية التي أصبحت، بلغة الماركسيين، حتمية تاريخية، وهي، بالنسبة للجزائر، حتمية للخروج من الفشل المحتمل إلى مشروع ذاتي نحو القوة الناشئة في حدود زمنية منظورة.
يمكن اعتبار رسالة "مجموعة الـ14"، المنادية بعدم ترشّح الرّئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة، جزءاً من هذا الحراك المتضمّن تغيير طريقة التفكير والعمل داخل منظومة السياسة العامة للبلاد، بهدف الذهاب إلى "جمهورية ثانية"، بأدواتٍ، إجراءاتٍ، نصوصٍ، ونخبة تتسّم، كلّها، بالإجماع، وتحوز القبول لدى الرأي العام الذي عليه أن يختار بين ما يعرض عليه من برامج وشخصيّات في سبيل تجسيد ذلك الأمل المتمثّل تغيير بوصلة الاتّجاه إلى إقرار مشروع الدّولة النّاشئة في حدود زمنية منظورة.
يمكن القول، هنا، إن المشهد السيّاسي لهذا الحراك لا تصنعه فقط هذه الرّسالة، بل تشارك فيه أقلامٌ تكتب، مجتمع مدني يعبّر، ونخبة لا تتوقّف عن المناداة بهذا التّغيير، وهو مناط أية حياة سياسيّة تتسّم بالحركيّة، مع خطّ سير عامّ بطابع التداول على السّلطة، وبمؤشّر تجسيد البرامج، ورضا الرأي العام من عدمه، أو هكذا المفروض أن تكون الحياة السياسيّة.
تشترك السّلطة والمعارضة الجزائريتان في هذا الحراك باتّجاهين متناقضين، إلى الاستقرار على ما هو موجود أو إلى ما هو مطلوب ومأمول. وكلا الاتّجاهين وجهان لعملة واحدة، يطلق عليها في عرف السيّاسة "التّفاوض المجتمعي للتداول على السلطة"، إقرارًا لـ"عقد اجتماعي جديد". وفي هذا الإطار، تريد السّلطة، من خلال ما تعرضه، الإبقاء على الأوضاع كما هي، معتبرة أنّ المغامرة بالتّغيير يتضمّن مخاطر، منها ما هو مرفوض داخليا، ومنها ما هو غير محبذ خارجياً.
على المستوى الداخلي، أي تغيير لا يمكن القبول به إذا كان بقصد تغيير النظام، وليس داخله، فالتغيير لا يمكن أن يحدث إلا بوتيرة، بمضمون ورزنامة تتحكّم السّلطة في مخارجها، وهو المعمول به منذ عقود في الجزائر، إضافة إلى أن التّغيير لا يجب أن يشمل التخلّي عن منظومة الحكم برمّته، بل ترميمه من الدّاخل بإصلاحات وصفت وتوصف بالتدرّجية والفوقية، تفسح فيها المجال للمشاركة في صنع القرار في دوائر ضيّقة، من دون تلك التي تبقى حصرية "سيادية" بنخبةٍ دون غيرها، هي في الحكم، ولا تراهن على ما يمكن أن يسحب مجالات منه إلاّ وفق ما تريده. وبرز هذا العرض إلى الوجود، غداة مظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 1988، وقبلته المعارضة آنذاك، وحاولت التعامل معه على أنه تدرجي إلى غاية التفاهم/ التفاوض على قواعد التحول إلى الديمقراطية، بإجرائية التداول على السلطة في انتخابات نزيهة. وقد أدّى فتح الباب لجرعة تغيير، قيل إنها غير محسوبة، آنذاك، إلى انفتاحٍ غير مدروس، وانتهى إلى عشرية حمراء بآلاف من الضحايا وحرب أهلية ضروس، أتت على الانسجام المجتمعي. والأهم بالنسبة للجميع في الجزائر أن الجميع يختزن ذلك الدرس في ذاكرته، ويستخدمه كيفما شاء، تحقيقاً لمصالحه.
وفي الجزائر معارضتان، ليبرالية وإسلاموية، وكلتاهما تهدفان إلى تغيير ديمقراطي. ولكن، بحكم ما أفضت إليه التجربة المذكورة، تريدان وتعملان وفق منهجية تفاوضية تلتقيان في بعض نقاطها وتفترقان، في الوقت نفسه، في كثير من أشكال ذلك التغيير ومضامينه. ولا يمكن الحديث عن المنهجيتين، من دون التعريج على حدود التغيير الذي تطالب به كلتا المعارضتين، لأن المسماة المعارضة الليبرالية تضع حدا لا يمكن تجاوزه في حصول ذلك التغيير، وهو عدم فوز الإسلاميين في أيٍّ من الانتخابات. ويتذكّر الجميع كيف تم تسيير الفترة التي تلت إعلان نتائج انتخابات 1991 التي فاز فيها إسلاميو جبهة الإنقاذ، المحظورة فيما بعد، وهي الانتخابات التي أفضت إلى تكوين "جبهة إنقاذ" مقابلة، وإلى وقف المسار الدّيمقراطي وحبس آلاف الإسلاميين، وانطلاق موجة العنف نحو عشر سنوات.
بالنسبة للإسلاميين، لا يجب أن تصل حدود التغيير، أيضاً، لمن هم في السّاحة، إلى تغيير النظام، وإنما الاندماج فيه وإحداث تغييرات "شكلية" من الداخل. ولذلك كانت هذه المعارضة مشاركة في تيار التحالف مع السلطة، رفقة حزبي النّظام، جبهة التّحرير والتجمّع الدّيمقراطي.
وفي المعارضتين أحزاب وشخصيات تطالب بتغيير كامل للنظام، وفق إجرائية دستورية – سياسية. وقد عملت السلطة، في العشريتين الماضيتين، على منع هؤلاء من التعبير، بل عملت، أيضاً، على تنظيم عمليات "انقلابٍ علمية"، داخل الأحزاب التي يترأسونها، على غرار الذي حدث للزعيم الإسلامي، عبدالله جاب الله، مرات. ويدخل ذلك، كله، في إطار رسم إدراك لدى النخبة السياسية بأن ثمّة حدوداً للتغيير لا يجب تجاوزها، ولا حتى المطالبة بها تحت طائلة عودة ما تختزنه الذاكرة الوطنية، بشأن تغييرٍ غير محسوب المخارج والعواقب، كاد أن يعصف بالبلاد برمتها. وقد جاء ذلك مرسوماً، بحق، من خلال صور "حتى لا ننسى" تذكيرا لمن عايش، وتعريفا لمن لم يعرف، من الجيل الجديد، تلك العشرية الحمراء.
وعلى الرّغم من كلّ ذلك الخلاف، إلاّ أن المعارضة تعمل، ظرفيا، وخصوصا عند قرب المواعيد الانتخابية، لتحقيق أهدافٍ محدّدة كما في الأعوام الثلاثة الأخيرة، من خلال تنسيقية جمعت شتات تلك المعارضة. ولكن، بسبب أيديولوجيات ومواقف متناقضة، تتناغم، أحيانا مع استراتيجيات السلطة في بث مسار "فرّق تسد"، فإنها لا تلبث في إظهار تناقضاتها، وتعطيل مسار التنسيق لإحداث التغيير، إلى إشعارٍ تريده السلطة بعيدا قدر الإمكان.
ويعبّر العرضان عن رغبة ملّحة للتّغيير، وإن اتسمّ أحدهما بحساب المكاسب والخسائر، وبمنهجية محدّدة تتضمن البقاء في الحكم، أو فسح المجال لمشاركة محسوبة، في حين تتضمّن إرادة المعارضة مطالب تغييرٍ، فهمت أنها لا يجب أن تتعدّى حدودا معينة. وبالتالي، يتضمن عرضها مفاوضات بمشاركة تدرّجية، مع التّركيز على أن قدرات الجزائر، إن استغلّت بطريقة فعّالة، يمكن أن تشكّل نموذجاً لبناء مشروع قوّة ذاتية في المغرب العربي، وفي الضفة الجنوبية للمتوسط، بما يكفل مكانة "تحت الشمس" للجميع: للنظام، للمعارضة، للشعب وللجزائر، دولة ناشئة وقوية.
يتضمن العرضان، على الرغم مما يبدو ظاهرياً، نقاط التقاء في منهجية التغيير، وفي مضمونه، لأنّ الجميع يتحدّث بلغةٍ أصبح يعي مراميها السياسية، كما أن العالم الذي كانت النظم تتشدق فيه بالتسلطية لم يعد موجوداً، الآن، بسبب عولمة وسائل الاتصال وبلوغ الشعوب درجة وعي سياسي، أتاح الانفتاح على العالم رؤيته عياناً، بل وأتاح، أيضاً، إمكانية الاقتراب من الاستمتاع به، لتجسيد منظومة حقوق وواجبات، تحمل مسمّى "العقد الاجتماعي المواطني". إنها الثقافة السياسية المعولمة التي تتيح الحلم بالتغيير والمطالبة به من الشعوب حتى العربية.
على هذا الأساس، انطلق النّظام في عرض إصلاحاتٍ بضغط الشّعب، مرتّين. غداة أحداث أكتوبر/ تشرين الأول 1988، وغداة انتفاضة الزيت في يناير/ كانون الثاني 2011. وعلى الرغم من أن العرض كان محدوداً، تدرّجياً وبطيئاً، إلا أنه بدا خطوة في الطريق الصّحيح لفرض منهجية التغيير، خصوصاً أن السّلطة لم تشأ استغلال أموال النفط لإحداث ثورة اقتصادية، تنقل الجزائر من "الريع" إلى "الإنتاج". وبالتالي، بمجرّد حدوث أزمة أسعار في السوق النفطية الدولية، تنكمش آلية شراء السّلم الاجتماعي. ويمكن، آنذاك، للمعارضة استغلال الظرف، للانطلاق في مفاوضاتٍ جديدةٍ، لعرض أكثر ملاءمة لمنهجية التغيير، بمضمون أجود وتدرجية أسرع، لتحوّل أعمق للنظام نحو الديمقراطية.
المهمّ، هنا، أن الجميع متفق بأن العالم تغير، وأن منظومة الحكم ليست صالحة في الوقت الرّاهن، وقد قال الرئيس بوتفليقة، في حملته الانتخابية لعهدته الثانية، إن المشعل يجب أن يمرّر إلى الأجيال الجديدة. وذلك في إطار الاعتراف بوجوب إحداث التغيير بأدوات ذاتية، بدلا من القادمة من الخارج، لتحول المشهد من مطالبات بإحداث التحول الديمقراطي إلى مشاريع لتهديم الدولة، أو ما تعرف بالثورات المضادة.
يعترف الجميع في الجزائر بحتمية التغيير، لكن الجميع أيضاً، يختلفون بشأن منهجية إحداثه. وهنا نقاط الالتقاء التي على الجميع استثمارها بمناسبة ما ينتظر البلاد من مواعيد انتخابية فاصلة، على غرار الانتخابات الرئاسية في 2019. وعلى هذا، يمكن للجميع، كما في مناسبات فاصلة، الاتفاق على الاجتماع لإنتاج مخارج مناسبة للأزمة السياسية في الجزائر، بإجرائية معروفة سبق اقتراحها غداة الاستقلال، وهي الجمعية التأسيسية، للاتفاق بشأن نص دستوري، تليها انتخابات للمؤسسات، كالرئاسة والبرلمان.
يمكن، الآن، إرساء منهجية العمل التغييري بالتفكير في إحداث التحول نحو الديمقراطية، من خلال الجمهورية الثانية التي أصبحت، بلغة الماركسيين، حتمية تاريخية، وهي، بالنسبة للجزائر، حتمية للخروج من الفشل المحتمل إلى مشروع ذاتي نحو القوة الناشئة في حدود زمنية منظورة.