عندما يكون صانع القرار غير عقلاني وفاشلاً
لا يوجد تعريف جامع مانع لنظرية صنع القرار، ولا اتفاق على أنجع النماذج التي ينبغي اتباعها في عملية صنع القرار. هذه من القضايا التي أُلِّفت فيها كتب كثيرة، وثارت بشأنها خلافات عميقة. ومن غير المنطقي، أصلاً، أن يكون هناك توافق في حقلٍ تتعدّد فضاءاته المعرفية والتخصصية ومعطياتها، فعن أي صنع قرار نتحدّث، وفي أي سياق؟ أهو صنع قرار في حياتنا الشخصية، أم في أعمال تجارية، أم منظمات متخصّصة، حكومية وغير حكومية، أم أننا نتحدّث عن صناعة قرار في دول، وهل هي متعلقةٌ بالسياسات الداخلية أم الخارجية؟ إلا أن ما سبق لا ينفي وجود تعريفاتٍ عامةٍ وفضفاضةٍ، يمكن اللجوء إليها لتقديم إطار مفاهيمي. مثلاً، ثمَّة من يعرّف صنع القرار بأنه "عملية أو سلسلة من الأنشطة التي تنطوي على مراحل في فهم تحدٍّ أو مشكلةٍ ما، البحث عن المعلومات، تحديد البدائل، واختيار واحدٍ منها بما يتوافق مع النتائج المتوخّاة ضمن نسق من الأولويات". ويضيف أصحاب هذا الرأي أن "نظرية صنع القرار تتعاطى مع الكيفية التي يجب أن يتصرّف بها العقلاء تحت الخطر، وفي ظل سيادة عدم اليقين".
إذاً، ثمَّة ثلاثة عناصر في هذا السياق: تعريف المشكلة وفهم ماهيتها، أبعادها، وتعقيداتها. وضع تصورات لحلها، وهو ما يتطلب معلومات وافية وذات مصداقية عنها. اتخاذ القرار، وهو ما يستلزم وجود صانع قرار على قدر المسؤولية والتحدي، فرداً كان أو مجموعة من الأفراد، كما في مجالس الإدارة والحكومات... إلخ. وبناءً على هذه الأرضية، ثمّة خبراء في هذا الحقل الدراسيّ صاغوا ما أسموه "النموذج العقلاني" في عملية صنع القرار، وهو قائم على العناصر السابقة، ويضيفون إليها عنصراً رابعاً، مراجعة خيارات الحل وتقييمها والمفاضلة بينها. ويفترض هذا النموذج أن صانع القرار شخص أو جهة عقلانيان ومستنيران، فلا يكتفيان بتعريف المشكلة وتوصيفها، بل يسارعان إلى معالجتها ودرء أخطارها، بكفاءةٍ عالية، مستندين إلى ترسانة صلبة وذات موثوقية من المعلومات. ويفرّق الدارسون المتخصصون بين "النموذج العقلاني" و"النموذج السياسي"، على أساس أن الثاني يفترض أن صناعة القرار "عملية مساومة شخصية، مناطها أجندة الفاعلين وليس الخيارات العقلانية.. ويتم استخدام القوة والسلطة بطريقة مدروسة لمضاعفة المنفعة الذاتية، كما أنه يتم تحديد أهداف التحالفات من منطلق المصالح الشخصية، لا المصالح العامة".
لا تزعم الفقرتان السابقتان أنهما قادرتان على اختزال موضوعٍ متشعب، مركّب، ومعقد مثل هذا، بقدر ما أنها محاولة لتقديم إطلالةٍ على بعض نماذج حية نعايشها اليوم، انتهى صانع القرار فيها إلى فشل ذريع، على الرغم من أن هذه النتيجة لم تكن، بالضرورة، قدراً، ولا هي نتيجة غياب خيارات وبدائل أخرى للتعامل معها. بمعنى أن الفشل مرتبطٌ بغياب "قيادة عقلانية" بالدرجة الأولى، وتقديمها منطق المنافع والمصالح الشخصية على المنفعة والمصلحة العامة.
"صانع القرار"، ترامب، اختار إنكار أمر كورونا ابتداءً، ثمَّ التهوين من شأنه، خوفاً على حظوظه ومصالحه الانتخابية
لعل أوضح مثال هنا فشل الولايات المتحدة الأميركية في التعامل مع جائحة فيروس كورونا، بحيث تحوّلت إلى بؤرته عالمياً، بأكثر من ثلاثة ملايين مصاب اليوم من أصل أكثر من 12 مليوناً في العالم، وبأكثر من 132 ألف قتيل من أصل أكثر من 548 ألف قتيل عالمياً. وتتغير هذه الأرقام يومياً وبشكل جوهري. طبعاً، لا يمكن الزعم، في هذا الصدد، أن الولايات المتحدة أخذت على حين غرّة بالجائحة، فأجهزتها الاستخباراتية وخبراؤها كانوا يحذّرون، منذ مطلع العام الجاري، من أنها قادمة، كما لا يمكن القول إن الدولة العظمى لا تملك القدرات والكفاءات للتعامل معها واحتوائها. ما جرى ببساطة أن "صانع القرار" الرئيس، دونالد ترامب، تحديداً، اختار إنكار الأمر ابتداءً، ثمَّ التهوين من شأنه، خوفاً على حظوظه ومصالحه الانتخابية، متجاهلاً بذلك المعطيات التي يقدّمها له أفضل الخبراء العالميين، والحلول التي اقترحوها، ومن ثمَّ انتهى الحال إلى ما هو عليه. إنه نموذج فاقع لفشل صانع القرار في التصدّي لخطر داهم، لا نتيجة عجز الإمكانات والقدرات، ولا غياب الحلول والبدائل للتعامل معه.
ينطبق الأمر على البرازيل، التي تحولت إلى البؤرة الثانية عالمياً للجائحة بأكثر من 1.7 مليون إصابة، وأكثر من 68 ألف وفاة. بقي الرئيس، جايير بولسونارو، يصرّ على أن ثمَّة مبالغةً في الحديث عن خطر فيروس كورونا، وعارض فرض إجراءات السلامة، واليوم يقبع هو نفسه مصاباً بـ"الإنفلونزا البسيطة"، كما وصفها في شهر إبريل/ نيسان الماضي. إلا أن تلك "الإنفلونزا البسيطة"، قتلت، منذ تصريحه ذاك، أكثر من 65 ألفاً من مواطنيه، إذ كانت حينها حالات الإصابة في بلاده لا تتجاوز 40 ألفاً، وحالات الوفاة لم تتجاوز حاجز الثلاثة آلاف مرة أخرى، هذا نموذج لفشل صنع القرار عندما لا يكون صانع القرار عقلانياً، أو ربما عاقلاً، ويضع مصالحه الذاتية فوق مصالح شعبه ودولته، ويتبنّى، كما ترامب، خطاباً شعبوياً.
أصرَّ الرئيس البرازيلي، جايير بولسونارو، على أن ثمَّة مبالغةً في الحديث عن خطر فيروس كورونا، وعارض فرض إجراءات السلامة، واليوم يقبع مصاباً بـ"الإنفلونزا البسيطة"
ولكن لماذا نذهب بعيداً، ففينا، نحن العرب، من يمثل تجسيداً بالغ الفظاعة لعملية فشل صنع القرار، جرّاء لا عقلانية صانع القرار، ومحدودية قدراته وإمكاناته، وربما لا اكتراثه بمصير دولته وشعبه. خذ، مثلاً، تعامل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، مع ملف سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا على نهر النيل الأزرق، والذي يهدد فعلياً بتعطيش مصر، بمعنى أن الأمر يمثل تهديداً وجودياً لها.
تؤكد تقارير أن السيسي أصرّ على توقيع اتفاقية المبادئ مع زعيمي إثيوبيا والسودان عام 2015، على الرغم من تحذيرات كبيرة، حينها، صدرت عن خبراء مصريين، ومن مستشاريه، ومسؤولين في نظامه، من خطورة ذلك، على أساس أنه سيمثل إقراراً مصرياً بالموافقة على بناء إثيوبيا السد من دون أي ضمانات أو التزامات. لم يعر السيسي ذلك اهتماماً، بل تبجّح أمام مساعديه بأنه سينجح في إحداث تغيير كبير في الموقف الإثيوبي من "خلال استخدام تأثيره الشخصي" عليهم! وكان هذا فعلاً هو ما حاوله عبر العرض البهلواني المخزي الذي قدّمه أمام كاميرات التلفزة العالمية، عام 2018، وهو يطلب من رئيس الوزراء الأثيوبي، آبي أحمد، أن يردّد وراءه قائلاً: "والله والله لن نقوم بأي ضرر للمياه في مصر". ردّد أحمد القسم حينها، وحنثه بعدها، وها هو يؤكد أن بلاده ستبدأ بملء السد، في الأشهر المقبلة، باتفاق أو من دونه!
أصرّ السيسي على توقيع اتفاقية المبادئ مع إثيوبيا والسودان عام 2015، على الرغم من تحذيرات كبيرة، حينها، من خبراء مصريين، ومن مستشاريه
المفارقة أن السيسي مشغول اليوم عن "الخطر الوجودي" الداهم على بلاده القادم من الحدود الجنوبية، ويعبئ قواته على الحدود الغربية، مع الشقيقة، ليبيا، لدعم نظيره وحليفه الانقلابي، اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بعد هزائم منيت بها قوات الأخير. إذا لم يكن ما سبق فشلاً في صنع القرار، وفشلاً لصانع القرار، فماذا يكون؟
الأمثلة عربياً كثيرة في هذا السياق، تجدها فلسطينياً، في التعامل مع الاحتلال الصهيوني. وتجدها، سعودياً، في التعامل مع التمدد الإيراني في اليمن، وتجدها في حصار قطر. وتجدها في تمزيق النظام السوري بلاده وسحقها وسحق شعبها. وتجدها في غياب الحوكمة والإدارة الرشيدة في كل العالم العربي. وتجدها في كل تفصيل من تفاصيل الواقع العربي الآسن. ليس صحيحاً أن الفشل هو قدرنا، ولكن ماذا نتوقع إذا كان جُلُّ من يحكمنا هم من صنف المُبَرِّزينَ في الفشل، ممن يتمحورون حول مصالحهم ومنافعهم الذاتية، ولا يقدّرون إمكانات شعوبهم وبلادهم؟
اسألوا أميركا ترامب، فعندها الجواب!