عن "ورثة" النهضة
قبل وقت قريب، واحتفالاً باختيارها عاصمة للثقافة العربية، ارتأت سلطات مدينة قسنطينة الجزائرية تكريم ذكرى رائدٍ من روّاد النهضة الدينية والمجتمعية في الجزائر، كما في مجمل الثقافة العربية والإسلامية، وأقامت تمثالاً لابنها الشيخ عبد الحميد بن باديس (1889 ـ 1940). أسلوبٌ تتّبعه حضارات وثقافات مختلفة، لتخليد ذكرى عظماء مرّوا في رحابها من أهلها، أو من ضيوفها. كما أنه، وفي حالات الدولة الاستبدادية، يكون تعبيراً عن تمجيد قادتها الأحياء وتعظيمهم، وأسلوباً ناجحاً في نشر الرعب والخشية في المجتمع. بحيث يكون إلى جانب تمثال "الأب، القائد، المعلم، المُحرر، الزعيم..."، إلى آخره من هذه الخزعبلات، مجموعة أمنية تحميه وتنشر الرعب من حوله، ولو أن نحته غير الفني قادر بمفرده على نشر أعلى درجات الرعب والقرف. هذا التمثيل الاستبدادي والمفروض لشخوص الأنظمة المكروهة ساعد، أيضاً، في تأسيس حالة نفور مجتمعي للرمز المُمثّل ولما يُجاريه من أعمال. وأتى جزءٌ من التفسير المجتزئ للفكر الديني، ليدعم هذا النفور وهذه الخشية.
وجرّاء نصب هذا التمثال الجميل، كما توضّحه الصور، احتجّ جزء من المجتمع المحلي. فتلطّى بعضهم خلف الكلفة المرتفعة للعمل، حيث وصلت، بحسب بعض الأخبار، إلى ما يقارب الثلاثمئة ألف دولار. ولكن جلّ الاعتراض جاء من المتعممين، بلبوسهم الرسمية أو المجتمعية. وكان رفضهم وضع التمثال يتركّز حول تحريم تمثيل الأشخاص من خلال "أصنام"، ومخالفة هذا الأمر لما يجزمون هم بعنف، وبعيداً عن النقاش والنسبية، بأنه صحيح الدين. حتى أن رئيس مؤسسة ابن باديس، المفترض به أن يُمثل إرثاً نهضوياً، صرّح أن إقامة التمثال أساءت للعلامة "ولمكانته وسط أهله والأمة العربية التي دافع عن مبادئها ونبذ فيها كل ما يمت للوثنية والجاهلية، بما في ذلك نصب التماثيل وتعظيم القبور". وقد عبّرت ابنة الشيخ إبن باديس، كما ذكرت وكالة الأناضول، أنه "لو كان حياً لرفض أن ينصب له تمثال، وهو الذي حارب، طوال حياته، مثل هذه العادات التي تسيء للإسلام (...)".
هل استنطقوا الشيخ الجليل ليعرفوا رأيه؟ هل قرأوا فعلاً مُنتجه الفكري والروحي؟ هل يغازلون أمواج تيار التعصب والظلامية، أم هم سدَنَتها؟ ما هذا التفصيل القابل للاجتهاد وللتأويل الذي شغل مدينة وأهلها، وحرّض على النقاش المجتمعي، بعيداً عن هموم الناس الحقيقية؟ فمن المعروف، وشبه المسلّم به، أن تُشغل السلطات المستبدة، دينياً أو سياسياً، مجتمعاتها بتفاصيل العبادات والجدال حول أمور لا يمكن للعقل أن يعتبرها جزءاً من منظومة فكرية وروحية وأخلاقية سامية، من أهم أسسها مساعدة الناس، لكنه من المفاجئ أن يتصدى "ورثة" النهضة ورموزها إلى القيام بمثل هذا الدور.
وبعيداً عن الخوض في الشأن الديني، وإحراج الظلاميين بما يمكن إخراجه من أدلة عن سوء القراءة أو قصورها، فيبدو أن من حطم تماثيل بوذا في وادي باميان في أفغانستان، من طلاب الجهل، ومن قطع رأس تمثال أبو العلاء المعري في سورية من الظلاميين، ومن دمر تماثيل الحضارات المؤسسة في العراق من الدواعش، ومن "دمر" ولو كلامياً تمثال الشيخ ابن باديس من "ورثته"، ينهلون من الفكر نفسه، ولا "فضل" لواحد منهم على الآخر، إلا في الأداة وفي التنفيذ.
الميراث الفكري مسؤولية هائلة، ففي فرنسا مثلاً، رحل المستشرق الفرنسي جاك بيرك (1910 ـ 1995)، وترك إرثاً هائلاً من الكتب والمخطوطات، باعها أولاده وورثته على الوزن، ولم يدّعوا يوماً حمل إرثه الثقافي. وفي بداية الألفية الثالثة، تداعى مثقفون سوريون في حلب، وبرعاية فرنسية، للاحتفال برمز من رموز النهضة الأدبية والفكرية الحلبي فرنسيس مراش (1836 ـ 1873)، صاحب رواية "غابة الحق". ووجدوا من المناسب دعوة من يمثل عائلته للحضور. ولكن، من دُعي اعتذر لاقتصار لغة المحاضرات على العربية. ونسي أن اسم المراش الكبير مرتبط بالعمل الأدبي العربي، أكثر منه باللغة الفرنسية التي تحمل لبعضهم تميّزاً طبقياً. والأمثلة التاريخية تتشابه، وتدلّ على أن الفكر والعلم والوعي ثروات لا تورّث تلقائياً، بل تُكتسب من خلال التفكير والتعليم والتوعية.
ورثة طبيعيون كثيرون لعظماء في مشرق الأرض ومغربها، بعيدون، في الفكر وفي الممارسة، عن إطار ومحتوى ما ورثوه غير مختارين. وقد فسّر علم الاجتماع الغربي هذه الظاهرة بالعلاقة الإشكالية بين الأب/ الأم والأبناء، حيث يعيشون في ظل اسمٍ كبيرٍ يحمل رمزية ثقيلة لمفكر أو عالم أو سياسي... ويكادون لا يخرجون من هذه البوتقة، إلا إذا اجتهدوا على أنفسهم وعلى علمهم. وبالتالي، تجمعهم علاقة إشكالية معه، تتجسّد من خلال رفضه، أو تحميل فكره ما لا يحتمل، أو السيطرة على إرثه والاجتهاد في تشويهه.
من المُجدي، إن صحّ الجزم، أن لا يتصدّى غير الراغب لأن يكون "وريثاً" فكرياً لمن سبقه لمجرد الارتباط العائلي. فإن لم يقرأ، وهو حال بعض الوارثين، أو أنه قرأ ولم يفهم، وهو حال آخرين، فعليه أن لا يجتهد في تفسير ما قام به السالفون وتحويره، لأنه لا يحمل ذخيرتهم الفكرية والجدلية، ومجرد الاسم لا يمنح لصاحبه الحق في تشويه الذكرى والذاكرة.