09 نوفمبر 2024
عن إعاقة التغيير في الجزائر
انتهت أزمة إضراب الأطبّاء المقيمين في الجزائر من دون أن تُقبل مطالبهم، وانتهت من دون أن تبرز، إلى الأفق، إدارة سياسية للأزمة، سواء بالمفاوضات أو بالتوصل إلى حلول/ تسوياتٍ لتلك المطالب، لتطرح هذه الأزمة إشكاليات كثيرة تحاول هذه المقالة مناقشتها. لكن، وكما أوضحت مقالات للكاتب نُشرت في "العربي الجديد"، كثيرا ما تصل الأزمات الاجتماعية في الجزائر إلى إبراز الوجه السيئ في المناورة، والتفاوض وفي الإدارة، ما يؤكّد، مرّة بعد مرّة، أن السّلطة لا تعمل إلا على إدامة المشكلات، لإدامة الاستعصاء على التغيير.
تعبّر الإشكالية الأولى التي تطرحها هذه الأزمة عن مقدار الاحترام الذي تكنّه الجزائر لكفاءاتها، حيث إنها لا تتوانى عن صرف مليارات الدولارات لتأهيل تلك الإطارات (الكوادر) وتكوينها، على الرغم مما يمكن أن يُقال عن شكل ذلك التكوين ومضمونه. ومع ذلك، تتوقف عن مسار الاستفادة منهم لتغيير وجه الجزائر، وعلى المستويات كافة، بل تدفعهم إلى الهجرة بعدم توفير مخارج لآلاف من المتخرّجين من الجامعة، وخصوصا في ميادين جد حساسة، كالطب والهندسة وبعض القطاعات التكنولوجية الأخرى.
ومما يدلّ على كفاءة تلك الكوادر أن 75% من الأطباء الأجانب في فرنسا هم من الجزائريين، وأغلبيتهم متخصّصون في الجراحات الدّقيقة، وتعمل المستشفيات الكبرى في فرنسا، بل وأوروبا قاطبة، إضافة إلى شمال القارة الأميركية، على استقطابهم، بمنحهم أجورا عالية، وإمكانات للبحث وتفجير الإبداعات والابتكارات، ما لا يتوفر في الجزائر أو، لنقل، لا تتوفر إرادة، هنا في الجزائر، لتوفيرها لهم.
وتطرح الإشكالية الثانية منهجية إدارة الأزمات الاجتماعية التي أفادت مقالة سابقة بأنها منهجية إدارة بالفشل، وإدارة لإدامة منطق الاستعصاء على التّغيير، وذلك كله من خلال إدامة الطبيعة الريعية للدولة، والتي تتيح (بتوفر مداخيل الاقتصاد الريعي الطاقوي، حتى وهي متذبذبة صعودا ونزولا من حيث أسعارها في السوق الدولية) الاستمرار في شراء السلم الاجتماعي، وذلك بخنق الطبقة الوسطى التي يُناط بها، في كل المجتمعات، قيادة التغيير وصنع الرؤى الجديدة/ البديلة للفشل.
يُعتبر الأطباء المقيمون جزءا من فئة عريضة من الطبقة الوسطى الجزائرية التي تعمل السياسة العامة في الجزائر على خنقها، رفقة الأساتذة الجامعيين، المهندسين، رجال الأعمال، وغيرهم ممن توضع أمامهم العراقيل، حتى لا يشكلون قاطرة التغيير في البلاد. يمكن الحديث، هنا، عن عراقيل هيكلية، وأخرى ذات طبيعة مؤسسية، غرضها إدامة تلك المقاربة في الرؤية لدور الطبقة الوسطى في الجزائر.
بالنسبة للعراقيل الهيكلية، لا يعدو الأمر عكس صورة للانهزام الدائم في أيّة أزمة تواجههم، في التعامل مع السياسة العامة في المجال الذي يعملون فيه، ويوجد ذلك، في المجتمع، إدراكا سلبيا للكفاءة من ناحية. كما توجد، من ناحية أخرى، رغبة نحو إرادة الانتماء للطبقة الدنيا طلبا للاستفادة من الريع المُوزّع على الفئات الاجتماعية الدنيا في شكل إسكان وتشغيل، ضمن شبكات اجتماعية تحجّم بهم نسبة البطالة العالية في البلاد (يكفي لتأكيد هذا الأمر المقارنة بين أرقام المنظمات الدولية وأجهزة الإحصاء الرسمية في البلاد).
أما العراقيل المؤسسية فهي كثيرة، لعل أبرزها المعاملة التي يحظى بها أصحاب الشهادات العليا، سواء في ميادين عملهم، وفي مساواتهم بغيرهم من المواطنين في مسألة السكن والخدمات الاجتماعية الأخرى، على سبيل المثال. لا تكاد تجد رأيا جامعا بين الخبراء يمكن من خلاله الحديث عن مؤشرات الترقية المؤسسة على الكفاءة وحدها، أما في ما يخص المعاملة عند حدوث أية نزاعات اجتماعية/ مهنية، فالحديث، هنا، يكفى مرجعيةً له ما حدث ويحدث للأطباء المقيمين، للتدليل على مقدار الإقصاء للكفاءة من مجال العمل الدقيق.
تأتي إشكالية منهجية مقاربة منظومة السياسة العامة للكفاءة في المقام الثالث، تدليلا على مقدار الدفع، لا الجذب الذي تتيحه تلك السياسة العامة بالنسبة للكفاءات الجزائرية، والتي تصنع، اليوم، الحدث، أينما منحت لها فرصة تفجير إبداعاتها، إذا توفّر لها عاملا الإمكانات والتقدير لكفاءتها، وفقط.
يمكن الحديث، هنا، عن خاصية النجاح في إثبات الذّات عند الجزائريين، خارج الوطن، للإيحاء بأنّ أسبابه إن توفّرت، في بلدٍ بحجم قارة وبقدرات هائلة، فإن ذلك سبيل تفجير الإبداع والوصول إلى قمة العطاء. هذا النّجاح الذي يحدث في بيئة الكفاءة وتوفير الإمكانات لجزائريين عاديين، لو كان لهم أن يعيشوا في بيئة الانسداد، لما كان لهم أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه عطاءً وإبداعا.
السّؤال الذي يطرح، هنا، حقّا، لماذا فشل هنا ونجاح هناك؟ ثمّ، هؤلاء جزائريون، وهؤلاء مواطنوهم، بالجينات نفسها، وبالتّكوين العقلي والخلقي نفسه، لماذا ينجح بعضٌ ويفشل آخرون؟ أسئلة طرحها محلّلون كثيرون، وأسّسوا عليها استنتاجاتٍ ستأتي المقالة على ذكر نواح منها. لكن، من البداية، نحن أمام ظاهرة تنادي بأعلى صوتها إنّ السّبب الأساس، بل الوحيد، يكمن في التّسيير السيئ للإمكانات، ولعدم التعامل الطبيعي مع القدرات، سواء المادية أو البشرية في سبيل تحويل بلد كبير نظريا إلى قوة عملية حقيقية.
كثيرا ما تساءل الجزائريون: لماذا لا يتمّ الاحتفاء بالقدرات البشرية الجزائرية التي تثبت، كل يوم، كفاءاتها وعطاءاتهـا الابتكارية، في بيئاتٍ وفّرت لهم الإمكانات، واحترمت فيهم قدراتهم من دون رؤية لأصولهم الاجتماعية، ومن دون وساطة تدفع غيرهم إلى الأمام، وتضعهم، بمستوياتهم الراقية في العلم وفي الكفاءة المهنية، أمام إحباطات الترقية، الحصول على العمل، السكن، بل والعيش، بكل بساطةٍ، ليفجروا تلك القدرات بإمكاناتهم الخاصة.
وكانت الأجوبة التي يصل إليها الجزائريون أنّ الأمر يكمن في تسيير سيّئ للسياسة العامة للبلاد في كل الميادين، وعلى كلّ المستويات إلى درجة أن بلدا بقدرات الجزائر أصبح، منذ الاستقلال، حبيسا لأسعار نفط تُحدّد أسعاره في بورصات عالمية، وترتفع أو تنخفض وفق مواقف و معطيات/ رهانات جيو سياسية، لا تملك البلاد في تحريكها شيئا.
لنذكر، هنا، على سبيل المثال، بعضا من النماذج التي توحي بالنجاح، مع الأخذ في الاعتبار عاملي البيئة، وفارق التسيير بالعلم للإمكانات والقدرات نفسها، لتنتج ذلك القدر من الابتكار والإبداع. هناك البروفيسور إلياس زرهوني الذي عيّنه الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، مسؤولا عن مشروع صحي أميركي بميزانية تجاوزت 25 مليار دولار، اعترافا منها بكفاءته. وعندها، فقط، بدأت صحف جزائرية تحتفي به، وتكتب أنّه من الكفاءات الجزائرية التي كتب لها أن تجد في المخابر الطبية والعلمية الأميركية ما لم يكن لها أن تجد ذرّةً منه في الجزائر.
كفاءة جزائرية أخرى في أميركا أيضا، البروفيسور الملغيشي، عالم البصريات الذي ساهم في تصميم (وتنفيذ) برنامج الروبوت (الرجل الآلي) المرسل إلى سطح المريخ قبل سنتين، وهو خرّيج جامعة جزائرية، ومُبتعث إلى بريطانيا ثم أميركا التي لمع فيها نجمه، وأصبح من علماء البصريات ومكتشفي آلات الكشف المبكر عن سرطان الثدي لدى المرأة، ثم شارك باكتشافه في برنامج استكشاف المريخ في إطار برنامج فضائي أميركي بمليارات الدولارات.
نموذج ثالث، هو البروفيسور الجزائري مجيد بوتمور، الباحث في العلوم الفيزيائية في سويسرا، والمتخصص في معالجة السرطان من خلال الفيزياء النووية، والذي يحكي، بمرارة، عن تهميش الكفاءات الجزائرية، ورفض منحهم فرصة تفجير إبداعاتهم، بل ودفعهم إلى الهجرة إلى الخارج، كما حدث لآلاف من الشباب المبدعين، أمثاله، من الجزائريين الذين اضطرهم تجاهل كفاءاتهم وإقصاؤهم، إلى الهجرة إلى ما وراء البحار، بحثا عن التقدير والاحترام.
هناك حقيقتان، يجب التعريج عليهما في الختام: مقدار الخسائر التي تتكبدها الجزائر من "هروب" الأدمغة والنخب إلى الخارج. ويكفي للتدليل على ذلك عن كلفة تكوين مؤهل جامعي في الجزائر، والذي يتعدّى، لأن التعليم الجامعي مجاني في البلاد، عشرات آلاف الدولارات. وبجمع عدد من يخرجون سنويا من البلاد، بحثا عن فرص أنجع، وعالم أرحب لقدراتهم، تتكشف لنا مليارات الدولارات التي تستفيد منها دول الغرب من استقطاب تلك الكفاءات الجزائرية.
تفيد الحقيقة الأخرى إلى أن موت/ خنق الطبقة الوسطى دليل على نية إدامة استعصاء التغيير في الجزائر، كون هذه الطبقة مناط الكفاءة من ناحية وحركية المجتمع من ناحية أخرى، وخصوصا منها حركية النهضة وحركية التحول نحو الديمقراطية وحرية العطاء والترقية بالكفاءة. وتتحدث دراسات غربية كثيرة عن حركية مجتمعاتنا العربية، من خلال حركية الكفاءة ومقدار الإبداع. ولعل ذلك كله إشارة إلى ما تزخر به أوطاننا من قدرات، إذا عرفنا كيف نستغلها في صنع غد أفضل ومستقبل مشرق لنخبةٍ لا تبحث إلا عن مكان تحت الشمس.
تعبّر الإشكالية الأولى التي تطرحها هذه الأزمة عن مقدار الاحترام الذي تكنّه الجزائر لكفاءاتها، حيث إنها لا تتوانى عن صرف مليارات الدولارات لتأهيل تلك الإطارات (الكوادر) وتكوينها، على الرغم مما يمكن أن يُقال عن شكل ذلك التكوين ومضمونه. ومع ذلك، تتوقف عن مسار الاستفادة منهم لتغيير وجه الجزائر، وعلى المستويات كافة، بل تدفعهم إلى الهجرة بعدم توفير مخارج لآلاف من المتخرّجين من الجامعة، وخصوصا في ميادين جد حساسة، كالطب والهندسة وبعض القطاعات التكنولوجية الأخرى.
ومما يدلّ على كفاءة تلك الكوادر أن 75% من الأطباء الأجانب في فرنسا هم من الجزائريين، وأغلبيتهم متخصّصون في الجراحات الدّقيقة، وتعمل المستشفيات الكبرى في فرنسا، بل وأوروبا قاطبة، إضافة إلى شمال القارة الأميركية، على استقطابهم، بمنحهم أجورا عالية، وإمكانات للبحث وتفجير الإبداعات والابتكارات، ما لا يتوفر في الجزائر أو، لنقل، لا تتوفر إرادة، هنا في الجزائر، لتوفيرها لهم.
وتطرح الإشكالية الثانية منهجية إدارة الأزمات الاجتماعية التي أفادت مقالة سابقة بأنها منهجية إدارة بالفشل، وإدارة لإدامة منطق الاستعصاء على التّغيير، وذلك كله من خلال إدامة الطبيعة الريعية للدولة، والتي تتيح (بتوفر مداخيل الاقتصاد الريعي الطاقوي، حتى وهي متذبذبة صعودا ونزولا من حيث أسعارها في السوق الدولية) الاستمرار في شراء السلم الاجتماعي، وذلك بخنق الطبقة الوسطى التي يُناط بها، في كل المجتمعات، قيادة التغيير وصنع الرؤى الجديدة/ البديلة للفشل.
يُعتبر الأطباء المقيمون جزءا من فئة عريضة من الطبقة الوسطى الجزائرية التي تعمل السياسة العامة في الجزائر على خنقها، رفقة الأساتذة الجامعيين، المهندسين، رجال الأعمال، وغيرهم ممن توضع أمامهم العراقيل، حتى لا يشكلون قاطرة التغيير في البلاد. يمكن الحديث، هنا، عن عراقيل هيكلية، وأخرى ذات طبيعة مؤسسية، غرضها إدامة تلك المقاربة في الرؤية لدور الطبقة الوسطى في الجزائر.
بالنسبة للعراقيل الهيكلية، لا يعدو الأمر عكس صورة للانهزام الدائم في أيّة أزمة تواجههم، في التعامل مع السياسة العامة في المجال الذي يعملون فيه، ويوجد ذلك، في المجتمع، إدراكا سلبيا للكفاءة من ناحية. كما توجد، من ناحية أخرى، رغبة نحو إرادة الانتماء للطبقة الدنيا طلبا للاستفادة من الريع المُوزّع على الفئات الاجتماعية الدنيا في شكل إسكان وتشغيل، ضمن شبكات اجتماعية تحجّم بهم نسبة البطالة العالية في البلاد (يكفي لتأكيد هذا الأمر المقارنة بين أرقام المنظمات الدولية وأجهزة الإحصاء الرسمية في البلاد).
أما العراقيل المؤسسية فهي كثيرة، لعل أبرزها المعاملة التي يحظى بها أصحاب الشهادات العليا، سواء في ميادين عملهم، وفي مساواتهم بغيرهم من المواطنين في مسألة السكن والخدمات الاجتماعية الأخرى، على سبيل المثال. لا تكاد تجد رأيا جامعا بين الخبراء يمكن من خلاله الحديث عن مؤشرات الترقية المؤسسة على الكفاءة وحدها، أما في ما يخص المعاملة عند حدوث أية نزاعات اجتماعية/ مهنية، فالحديث، هنا، يكفى مرجعيةً له ما حدث ويحدث للأطباء المقيمين، للتدليل على مقدار الإقصاء للكفاءة من مجال العمل الدقيق.
تأتي إشكالية منهجية مقاربة منظومة السياسة العامة للكفاءة في المقام الثالث، تدليلا على مقدار الدفع، لا الجذب الذي تتيحه تلك السياسة العامة بالنسبة للكفاءات الجزائرية، والتي تصنع، اليوم، الحدث، أينما منحت لها فرصة تفجير إبداعاتها، إذا توفّر لها عاملا الإمكانات والتقدير لكفاءتها، وفقط.
يمكن الحديث، هنا، عن خاصية النجاح في إثبات الذّات عند الجزائريين، خارج الوطن، للإيحاء بأنّ أسبابه إن توفّرت، في بلدٍ بحجم قارة وبقدرات هائلة، فإن ذلك سبيل تفجير الإبداع والوصول إلى قمة العطاء. هذا النّجاح الذي يحدث في بيئة الكفاءة وتوفير الإمكانات لجزائريين عاديين، لو كان لهم أن يعيشوا في بيئة الانسداد، لما كان لهم أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه عطاءً وإبداعا.
السّؤال الذي يطرح، هنا، حقّا، لماذا فشل هنا ونجاح هناك؟ ثمّ، هؤلاء جزائريون، وهؤلاء مواطنوهم، بالجينات نفسها، وبالتّكوين العقلي والخلقي نفسه، لماذا ينجح بعضٌ ويفشل آخرون؟ أسئلة طرحها محلّلون كثيرون، وأسّسوا عليها استنتاجاتٍ ستأتي المقالة على ذكر نواح منها. لكن، من البداية، نحن أمام ظاهرة تنادي بأعلى صوتها إنّ السّبب الأساس، بل الوحيد، يكمن في التّسيير السيئ للإمكانات، ولعدم التعامل الطبيعي مع القدرات، سواء المادية أو البشرية في سبيل تحويل بلد كبير نظريا إلى قوة عملية حقيقية.
كثيرا ما تساءل الجزائريون: لماذا لا يتمّ الاحتفاء بالقدرات البشرية الجزائرية التي تثبت، كل يوم، كفاءاتها وعطاءاتهـا الابتكارية، في بيئاتٍ وفّرت لهم الإمكانات، واحترمت فيهم قدراتهم من دون رؤية لأصولهم الاجتماعية، ومن دون وساطة تدفع غيرهم إلى الأمام، وتضعهم، بمستوياتهم الراقية في العلم وفي الكفاءة المهنية، أمام إحباطات الترقية، الحصول على العمل، السكن، بل والعيش، بكل بساطةٍ، ليفجروا تلك القدرات بإمكاناتهم الخاصة.
وكانت الأجوبة التي يصل إليها الجزائريون أنّ الأمر يكمن في تسيير سيّئ للسياسة العامة للبلاد في كل الميادين، وعلى كلّ المستويات إلى درجة أن بلدا بقدرات الجزائر أصبح، منذ الاستقلال، حبيسا لأسعار نفط تُحدّد أسعاره في بورصات عالمية، وترتفع أو تنخفض وفق مواقف و معطيات/ رهانات جيو سياسية، لا تملك البلاد في تحريكها شيئا.
لنذكر، هنا، على سبيل المثال، بعضا من النماذج التي توحي بالنجاح، مع الأخذ في الاعتبار عاملي البيئة، وفارق التسيير بالعلم للإمكانات والقدرات نفسها، لتنتج ذلك القدر من الابتكار والإبداع. هناك البروفيسور إلياس زرهوني الذي عيّنه الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، مسؤولا عن مشروع صحي أميركي بميزانية تجاوزت 25 مليار دولار، اعترافا منها بكفاءته. وعندها، فقط، بدأت صحف جزائرية تحتفي به، وتكتب أنّه من الكفاءات الجزائرية التي كتب لها أن تجد في المخابر الطبية والعلمية الأميركية ما لم يكن لها أن تجد ذرّةً منه في الجزائر.
كفاءة جزائرية أخرى في أميركا أيضا، البروفيسور الملغيشي، عالم البصريات الذي ساهم في تصميم (وتنفيذ) برنامج الروبوت (الرجل الآلي) المرسل إلى سطح المريخ قبل سنتين، وهو خرّيج جامعة جزائرية، ومُبتعث إلى بريطانيا ثم أميركا التي لمع فيها نجمه، وأصبح من علماء البصريات ومكتشفي آلات الكشف المبكر عن سرطان الثدي لدى المرأة، ثم شارك باكتشافه في برنامج استكشاف المريخ في إطار برنامج فضائي أميركي بمليارات الدولارات.
نموذج ثالث، هو البروفيسور الجزائري مجيد بوتمور، الباحث في العلوم الفيزيائية في سويسرا، والمتخصص في معالجة السرطان من خلال الفيزياء النووية، والذي يحكي، بمرارة، عن تهميش الكفاءات الجزائرية، ورفض منحهم فرصة تفجير إبداعاتهم، بل ودفعهم إلى الهجرة إلى الخارج، كما حدث لآلاف من الشباب المبدعين، أمثاله، من الجزائريين الذين اضطرهم تجاهل كفاءاتهم وإقصاؤهم، إلى الهجرة إلى ما وراء البحار، بحثا عن التقدير والاحترام.
هناك حقيقتان، يجب التعريج عليهما في الختام: مقدار الخسائر التي تتكبدها الجزائر من "هروب" الأدمغة والنخب إلى الخارج. ويكفي للتدليل على ذلك عن كلفة تكوين مؤهل جامعي في الجزائر، والذي يتعدّى، لأن التعليم الجامعي مجاني في البلاد، عشرات آلاف الدولارات. وبجمع عدد من يخرجون سنويا من البلاد، بحثا عن فرص أنجع، وعالم أرحب لقدراتهم، تتكشف لنا مليارات الدولارات التي تستفيد منها دول الغرب من استقطاب تلك الكفاءات الجزائرية.
تفيد الحقيقة الأخرى إلى أن موت/ خنق الطبقة الوسطى دليل على نية إدامة استعصاء التغيير في الجزائر، كون هذه الطبقة مناط الكفاءة من ناحية وحركية المجتمع من ناحية أخرى، وخصوصا منها حركية النهضة وحركية التحول نحو الديمقراطية وحرية العطاء والترقية بالكفاءة. وتتحدث دراسات غربية كثيرة عن حركية مجتمعاتنا العربية، من خلال حركية الكفاءة ومقدار الإبداع. ولعل ذلك كله إشارة إلى ما تزخر به أوطاننا من قدرات، إذا عرفنا كيف نستغلها في صنع غد أفضل ومستقبل مشرق لنخبةٍ لا تبحث إلا عن مكان تحت الشمس.