عن الأمن القومي العربي
عاد، في سياق التدخل العسكري العربي في اليمن، ومشروع تشكيل قوة تدخل عربية لمحاربة الإرهاب، الحديث عن الأمن القومي العربي، بمفردات وبنبرة تذكّرنا بسنوات المد القومي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. كما تذكّرنا، أيضاً، بتوظيف الأنظمة العربية شعارات قومية خدمة لمآربها. فليس مصادفة أن تكون الدول العربية الأكثر نفوذاً، أو ثقلاً، هي من رفع الشعار القومي (مصر، سورية، العراق) والشعار الإسلامي (السعودي). لكن، ما هي بنية المشهد الأمني العربي؟
يمكن تصنيف الدول العربية أمنياً في أربع فئات أساسية: الأولى تضم دولاً (بلدان الخليج أساساً) تعتمد في صيانة أمنها الوطني على المظلة الأميركية، على الرغم من تخصصيها جزءاً معتبراً من ميزانيتها للدفاع. الثانية تشمل الدول العربية التي تعتمد على تحالفات استراتيجية، وبناء قدرات عسكرية وطنية معتبرة، كما هو حال المغرب (تحالف مع أميركا)، مصر (تحالف مع أميركا) وسورية (تحالف مع روسيا). الفئة الثالثة تضم دولاً تعتمد على بناء قدرات عسكرية وطنية، بعيداً عن التحالفات الاستراتيجية والمظلة العسكرية الأجنبية، كما هي حال الجزائر. أما الفئة الأخيرة فتضم دولاً (تونس، لبنان، الأردن، موريتانيا...) محدودة الإمكانات، تعتمد، بالأساس، على التحالفات الخارجية المرنة و/أو على التوازنات الإقليمية، خصوصاً أنها لا تعبر عن طموحات إقليمية.
والملاحظ أن الدول الأكثر توظيفاً للأمن القومي العربي هي التي تنتمي إلى الفئتين: الأولى والثانية، ليس فقط لأن لها طموحات إقليمية، بل خاصة، لأنها تستند إلى تحالفات خارجية، تعتمد عليها إن اقتضت الضرورة. كما نلاحظ أن الدول العربية الأكثر تدخلاً في الشؤون العربية والأكثر شرعنة للتدخلات الغربية هي التي تعتمد على المظلة العسكرية الأميركية أو على التحالف مع أميركا. ووضعها يشبه استراتيجياً، ولكن بشكل مقلوب، وضع دول تستفيد من المظلة النووية الوطنية، أو الأميركية أو الأطلسية، وتقول، في الوقت نفسه، إنها ضد الانتشار النووي. وعليه، هناك علاقة بين التحالف مع أميركا وحمى التدخل العربي في شؤون دول عربية أخرى.
وماذا عن مغازي وتيرة التسلح العربي المرتفعة؟ إذا كان التهديد الإسرائيلي أسقط، تماماً، من الشواغل ومدركات التهديد الأمنية العربية، وإذا كان التهديد الإيراني يُعالج ضمن مقاربة إقليمية أوسع، بل ودولية، لا مكان للعرب فيها، فإن التسلح العربي موجه، بالأساس، ضد الأشقاء. ومن ثم، لا معنى للحديث عن الأمن القومي العربي، إذا كانت الدول العربية تتسلح لدواع بينية. ومن ثم، يمكن التأكيد على أن سياسات التسلح العربية تحكمها، بالأساس، توترات بينية، أو على الأقل غياب الثقة والشك في نيات الآخر العربي. المشكلة أن هذا التسلح المستمر والتحالف مع قوى خارجية لم يغير من البيئة الأمنية العربية المنكشفة أصلاً، إلى درجة أن فواعل غير دولتية تبدو أكثر تأثيراً على التفاعلات الإقليمية من دول عربية، تُعتبر أساسية في المنطقة.
هكذا انقلبت مدركات التهديد العربية رأساً على عقب. فمثلاً، كان موقف بعض الدول العربية خذولاً خلال الحرب الإسرائيلية-اللبنانية في 2006، ليس حباً في إسرائيل، ولكن كرهاً في حزب الله، وبعضها الآخر، أو نفسها، كان خذولاً إزاء الغزو الأميركي للعراق، ليس حباً في أميركا، وإنما كرهاً في صدام حسين... حسابات خاطئة جعلت تساهم في إنجاح المشروع الأميركي في العراق، خوفاً من سقوطه في يد مقاومة متمردة إقليمياً، أو تحوله إلى منصة تضرب منها تنظيمات إرهابية الدول المجاورة. لكن، هذا ما حدث. فشتان بين الحسابات الضيقة والآنية والرؤية الاستراتيجية بعيدة الأمد. فتلك الدول العربية، بموقفها هذا، ساهمت في وضع العراق تحت النفوذ الإيراني، وجعله أرضاً خصبة لداعش ونظيراتها. وها هي تقف، اليوم، على الأطلال، وتتحدث عن الأمن القومي! أخطاء استراتيجية مشابهة ترتكب في سورية وفي اليمن. فهل يمكن التفريط في الأمن القومي في سورية، والتذرع به في اليمن؟
ومن ثم، فإن الحديث عن أمن قومي لا يمكن أن يكون إلا مجازاً فقط. فالمشهد الأمني العربي هو مشهد: أمن وطني + أمن وطني + أمني... وهذا يساوي "أمون"، وليس "أمنا قوميا عربيا". وعلى الرغم من التقاطع الجزئي بين أمن دول عربية معدودة، فإنه لا يوجد هناك تقاطع فعلي بين أمن الدول العربية كفيل بإيجاد منظومة أمنية عربية. فهناك عدم توافق، بل وتعارض بين مدركات التهديد والشواغل الأمنية للدول العربية. فالاعتماد على التحالفات مع القوى الخارجية، جعل العلاقة مع أميركا أولوية قصوى لمعظمها، على الرغم من معاداة الأخيرة فكرة الأمن القومي العربي. ومن ثم، فإن الدول العربية التي تتحدث، اليوم، عن الأمن القومي العربي، بينما شواغلها وأجندتها الأمنية لا تحكمها أي اعتبارات قومية، لا مصداقية لها.
والحقيقة أن فاقد الشيء لا يعطيه، فالدول العربية تعاني الوهن محلياً، بسبب هشاشة عمرانها المؤسساتي والدولتي (تسلطية، فساد، علاقة متوترة بين الدولة والمجتمع...) والانكشاف خارجياً، فلا هي حققت الأمن الداخلي، ولا هي قادرة على صيانة أمنها الخارجي، فلا الكفاية في الداخل ولا الشوكة في مواجهة الخارج، بل بفعل بنيتها التسلطية "حققت" الشوكة في مواجهة المجتمع! فهل لدول فشلت في صيانة أمنها الداخلي أن تنجح في ذلك إقليمياً؟