02 نوفمبر 2024
عن التدوين زمن الدكتاتورية
عقودا قبل الثورة، هيمن النظام الحاكم في تونس على الفضاء العامّ، واحتكر وسائل الإعلام، وصادر أصوات المعارضين، وأنفق جهداً ومالاً كثيرين في إنتاج خطاب إعلامي موالٍ له، وجدّ في التعتيم على الحقائق وتكميم الأفواه، وتضليل الرأي العام الدولي، عبر الترويج في الداخل والخارج لصورة مفبركة، عنوانها "المعجزة التونسية"، مفادها بأنّ البلاد "دولة قانون وحقوق ومؤسّسات"، وأنّ الناس ينعمون برغد العيش. والحال أنّ البطالة كانت متفشية، والفقر كان منتشرا، والاستبداد كان جاثما على صدور الناس. وأمام سياسة التعتيم المنهجي تلك، بادر شباب من تونس إلى اختراق جدار الصمت، وصناعة إعلام جديد، كشف المستور، وفضح سياسات الدولة القامعة، وأبرز فداحة انتهاكات حقوق الإنسان، زمن الجنرال بن علي. وفي هذا السياق، ظهر التدوين الإلكتروني الاحتجاجي في تونس، باعتباره منفذا للكتابة الحرّة، وفضاء للتعبير المنفلت من قيود الدولة الشمولية. وبرزت، في تلك الفترة، مدوّنات رائدة ومواقع عديدة، استقطبت مبحرين تونسيين كثيرين في العالم الافتراضي، وكانت فضاء للتعبير الحرّ وللرّأي والرأي الآخر، وكسرت الحصار الإعلامي المفروض على الشعب، وجمعت بين حقوقيين ونقابيين ومتحزّبين ومستقلّين، وكانت تنشر مقالاتٍ جريئة، ورسوم كاريكاتير ساخرة، ومقاطع فيديو ذات مضمون استقصائي مميّز.
ومن بين المنابر الإلكترونية التي أحرجت النظام، لتزايد شعبيتها وثراء محتواها النقدي: منتدى المجلس الوطني للحرّيات (1991)، "تكريز" (1998)، "تونس نيوز" (2000)، "تونيزين" (2001)، نواة (2004). ومثّلت تلك المواقع، وغيرها، تيّار مقاومة الاستبداد سلمياً، وبطريقة مدنية عبر الشبكة العنكبوتية للاتّصالات. وأفاد مدير موقع نواة، سامي بن غربية، في شهادته أمام هيئة الحقيقة والكرامة (11 مارس/آذار2017) بأنّ "المدونين
ولإحكام السيطرة على الإنترنت، تم بعث جهاز مختصّ في المعلوماتية (الوكالة التونسية للإنترنت) من مهامّه مراقبة المُبحرين عبر الشبكة، وتتبع منشوراتهم وبريدهم الإلكتروني وصفحاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي. وحجبت الوكالة مواقع كثيرة، اعتبرتها ضدّ النظام، وأحدثت أخرى لتجميل صورة الدولة الأحادية. وساهمت وكالة الاتصال الخارجي في تمويل مشاريع القرصنة الإلكترونية، وفي تجنيد إعلاميين مدافعين عن النّظام، وكانت تمدّ القصر الرئاسي يوميّا بتقارير عن أنشطة المواقع المعارضة. واستعانت تلك الأجهزة الرقابية بجيشٍ من الصناصرة والوشاة، وببرمجيات قرصنة متطوّرة وغالية الكلفة، من قبيل أحصنة طروادة، وتقنيات بث الفيروسات، وفرز المحتوى للتشويش على المدوّنات المناوئة، ولفسخ قاعدة بياناتها ومنع المستخدمين من الوصول إليها. وجرى سنّ قوانين زجرية للتضييق على حرّية الإبحار، ولتقييد النشر الإلكتروني، ومنع النفاذ إلى المعلومة. ولم يقف النظام عند هذا الحدّ، بل تجاوز ذلك إلى تعقّب المدوّنين واعتقالهم وتعذيبهم، لأنّه كان يخشى قوّة الكلمة ودورها في استنهاض الناس وتنويرهم. ويذكر التاريخ أنّ المدوّن زهير اليحياوي حُكم بعامين سجنا، لأنّه كان يدير موقع تونيزين، الناقد، الساخر، ومات من أثر الاعتقال والملاحقة الأمنية والتعذيب سنة 2005. وسُجن محمّد عبّو ثلاث سنوات وستّة أشهر، بسبب نشره مقالات في موقع تونس نيوز، عن انتهاك حقوق الإنسان في البلاد. أمّا مختار اليحياوي فعُزل من عمله، بسبب رسالةٍ وجهها إلى بن علي، نقد فيها تدهور أوضاع القضاء، ونشرها موقع تونيزين. ولم تفلح تلك التدابير القمعية في إسكات أصوات المدوّنين الذين استمرّوا في إسناد الحراك الاحتجاجي/ التغييري، ونقلوا صورة الثورة إلى العالم.
اضطلع المدوّن، زمن الدكتاتورية، بدور المثقف الرقمي والمناضل الإلكتروني الذي غامر