03 مارس 2022
عن المثقف والثورة في السودان
في رواية السوداني دفع الله حسن بشير، "حينما يصبح العزف خطيئة"، الصادرة في سبتمبر/أيلول 2018، يكشف المثقف الراوي فساد السلطة السياسية، ممثلةً في شخصية الوزير المتنفذ، صاحب السلطة والسطوة، وممثلة في بشاعة "سجن الموت" في تخوم الخرطوم، حيث يُنفّذ الاعتقال، والتغييب القسري، والإعدام خارج القانون. لا تغوص الرواية في واقع سياسيٍّ معقد، بل هي أقرب إلى حكاية مواطن عادي، يستغرب من اعتقاله بلا سبب، بلا محاكمة، وبتهمة قتل ملفقة. هنا لا يمارس الوزير سطوته ضد معارضٍ سياسي، بل ضد عازف الكمان، ابن أحياء أم درمان الفقيرة، الذي أحبته ابنة الوزير المدللة، وحيدة أبويها، فكان جزاء العاشق السَجن، وكان جزاء العاشقة النفي إلى القاهرة، حتى لا تلطخ سمعة أبيها، وتعرّض مستقبله السياسي للعار والانهيار. في متن هذا العمل الأدبي، يمارس المثقف، الكاتب، دوره المحرّض، والكاشف شطط ماسك السلطة في استخدام الدولة وأجهزتها لقهر آخرين، أو التخلص منهم. وهنا بالضبط يظهر دور المثقف الأديب والروائي والصحافي والمفكر قبل الثورة، في استنهاض الرأي العام، وتحريضه، بكشف بشاعة النظام السياسي، وفضح فساده ومفاسده، بتوريةٍ لا تُخفي قصدها.
في رواية سودانية أخرى، "الجنقو مسامير الأرض"، الصادرة في العام 2012، للكاتب عبد العزيز بركة ساكن، الحاصلة على جائزة الطيب صالح للعام 2009، يتحدّث أحد شخصيات الرواية: "عاد صديقي إلى الحِلَّة، بعد فترة غياب طويل قضاها في الخرطوم، كان يرى ما قام به الجنقو (العمالة الموسمية) من حملٍ للسلاح، وقطع للطرق، وحرب للجيش الحكومي لن يستمر طويلًا، ولن يقود إلى أي نتيجةٍ، ما لم يَسنده تنظير سياسي، وتحليل اجتماعي، وهدف محدّد بدقة، يمكن تحقيقه في مثل هذه الظروف. كان يقول: التنظير بدون معايشة الواقع مثل طباخة الإدام على النار مباشرة دون وسيط يُفْسَدُ الإدام والنار معًا.. السلاح وحده لا يحل قضية، ولا يأتي بحق مستلب، فالبندقية إذا لم يكن بارودها قد صُنع من الفكر والحلم معًا، فإنها لا تقتل غير صاحبها".
وفي هذا النص، تعريف آخر لدور المثقف في التنظير للثورة، ومحاولة تحديد موقعٍ للمثقف فيها، ومدى حاجة الثورة للمثقف المشتبك مع قضايا الناس وهمومهم، لتحديد أهدافها بدقة، ذلك أن أي بندقيةٍ لا يحملها ويحميها فكرٌ تصبح قاطعة طريق. ونجد هذا التعريف في أدبيات الثورة الفلسطينية أيضاً "البندقية غير المسيسة قاطعة طريق".
في نص ثالث، يكتب عبد الوهاب الأفندي قبل أيام في "العربي الجديد": "سمعتُ من ابنتي ملاحظة عابرة، ولكنها عميقة المغزى، عن الثورة السودانية المشتعلة حالياً، حين علقت بأن الثورة عمّقت عند جيلها حب الوطن. وأضافت رداً على تساؤلاتي، إن معظم النقاشات التي كانت تدور في إطار الأصدقاء والزملاء في الجامعة قبل الثورة، كانت تتسم بالتذمر واليأس، وصبّ جام الغضب على هذا البلد. الآن، قالت أصبح لنا وطنٌ نحبه". وهنا يبرز دور آخر للمثقف، فمرحلة المخاض الثوري تستدعي من المثقّف الدفاع عن الوطن، وإعلاء قيم المواطنة من دون انحياز، أو رغبة، مجرد رغبة، في إقصاء الآخر المختلف.
دور آخر يمارسه المثقف يتمثل في إحياء الأمل عندما تخفق الثورة، أو لا يكتمل نصرُها، إذ يُصرّ المثقف على أن الشعب لن يتوقف عن عزف أناشيد الحرية، فالعزف ما كان يوماً خطيئة، والشعب لن يتوب عن حب الوطن، فحب الوطن يبقى ما ظلّ "هذا النيل يجري في دمي"، بتعبير دفع الله بشير، وهذا هو "الفرق الذي تصنعه الثورات العظيمة لحظة تخلصها من الاستبداد، حين تَنحت الأوطان نحتاً"، بتعبير عبد الوهاب الأفندي.
من دون أي انحياز غير موضوعي للمثقف، ومن دون أي تضخيم أو افتعال لأدواره، نعثر في النماذج السابقة من أعمال كتاب ومثقفين سودانيين على المثقف، فهو المحرّض من أجل الثورة تارة، وهو المُنَظِر لها في مكان آخر، وهو الحامي لمنجزاتها لاحقاً.
في رواية سودانية أخرى، "الجنقو مسامير الأرض"، الصادرة في العام 2012، للكاتب عبد العزيز بركة ساكن، الحاصلة على جائزة الطيب صالح للعام 2009، يتحدّث أحد شخصيات الرواية: "عاد صديقي إلى الحِلَّة، بعد فترة غياب طويل قضاها في الخرطوم، كان يرى ما قام به الجنقو (العمالة الموسمية) من حملٍ للسلاح، وقطع للطرق، وحرب للجيش الحكومي لن يستمر طويلًا، ولن يقود إلى أي نتيجةٍ، ما لم يَسنده تنظير سياسي، وتحليل اجتماعي، وهدف محدّد بدقة، يمكن تحقيقه في مثل هذه الظروف. كان يقول: التنظير بدون معايشة الواقع مثل طباخة الإدام على النار مباشرة دون وسيط يُفْسَدُ الإدام والنار معًا.. السلاح وحده لا يحل قضية، ولا يأتي بحق مستلب، فالبندقية إذا لم يكن بارودها قد صُنع من الفكر والحلم معًا، فإنها لا تقتل غير صاحبها".
وفي هذا النص، تعريف آخر لدور المثقف في التنظير للثورة، ومحاولة تحديد موقعٍ للمثقف فيها، ومدى حاجة الثورة للمثقف المشتبك مع قضايا الناس وهمومهم، لتحديد أهدافها بدقة، ذلك أن أي بندقيةٍ لا يحملها ويحميها فكرٌ تصبح قاطعة طريق. ونجد هذا التعريف في أدبيات الثورة الفلسطينية أيضاً "البندقية غير المسيسة قاطعة طريق".
في نص ثالث، يكتب عبد الوهاب الأفندي قبل أيام في "العربي الجديد": "سمعتُ من ابنتي ملاحظة عابرة، ولكنها عميقة المغزى، عن الثورة السودانية المشتعلة حالياً، حين علقت بأن الثورة عمّقت عند جيلها حب الوطن. وأضافت رداً على تساؤلاتي، إن معظم النقاشات التي كانت تدور في إطار الأصدقاء والزملاء في الجامعة قبل الثورة، كانت تتسم بالتذمر واليأس، وصبّ جام الغضب على هذا البلد. الآن، قالت أصبح لنا وطنٌ نحبه". وهنا يبرز دور آخر للمثقف، فمرحلة المخاض الثوري تستدعي من المثقّف الدفاع عن الوطن، وإعلاء قيم المواطنة من دون انحياز، أو رغبة، مجرد رغبة، في إقصاء الآخر المختلف.
دور آخر يمارسه المثقف يتمثل في إحياء الأمل عندما تخفق الثورة، أو لا يكتمل نصرُها، إذ يُصرّ المثقف على أن الشعب لن يتوقف عن عزف أناشيد الحرية، فالعزف ما كان يوماً خطيئة، والشعب لن يتوب عن حب الوطن، فحب الوطن يبقى ما ظلّ "هذا النيل يجري في دمي"، بتعبير دفع الله بشير، وهذا هو "الفرق الذي تصنعه الثورات العظيمة لحظة تخلصها من الاستبداد، حين تَنحت الأوطان نحتاً"، بتعبير عبد الوهاب الأفندي.
من دون أي انحياز غير موضوعي للمثقف، ومن دون أي تضخيم أو افتعال لأدواره، نعثر في النماذج السابقة من أعمال كتاب ومثقفين سودانيين على المثقف، فهو المحرّض من أجل الثورة تارة، وهو المُنَظِر لها في مكان آخر، وهو الحامي لمنجزاتها لاحقاً.