عن الهروب من الذات
لا زلت أذكر أحدهم حينما جاء في زيارة إلى ماليزيا قال لي إنه لا يطيق الأكل العربي، قلت له وماذا تعمل في بلدك؟ قال أعتمد على المطاعم الخارجية والوجبات السريعة. والبعض الآخر يقول لي أصبحت أجيد التعبير باللغة الإنكليزية أكثر من اللغة العربية، وظاهرة اللغة هذه لم تعد محصورة على بلدان المهجر، من خلال احتكاكي مع عائلات قادمة من الكويت وقطر والسعودية، أصبحت بعض العائلات تتكلم اللغة الإنكليزية مع الأطفال في البيوت بدلاً من اللغة العربية.
لم ينته الأمر هنا، انتقلت هذه الظاهرة من مجرد كراهية العيش والأكل واللغة لدى الكبار، إلى طريقة تربية لدى الصغار، أصبحت العائلات الميسورة تُنفر أبناءها من التعليم باللغة العربية، الحضانة صينية، المدرسة التي يدرس فيها الأبناء صينية أو بريطانية، اللغة التي يتم التعامل بها في البيت مع الأطفال هي الإنكليزية، طريقة جدول الأكلات تحول من المطبخ العربي إلى الوجبات الخفيفة والخبز الإيطالي والروتي الفرنسي.
مرة، سألت صديقي ما معنى هذه الكلمة بالعربي من باب الجهل بمعناها طبعا لا من باب الاختبار، قل لي لا أحب أن أترجم إلى العربية، يكفي أن أفهمها من دون معرفة معناها، كذلك لاحظت أن الكثير من الشباب يختارون برمجة هواتفهم باللغة الإنكليزية. قلت مرة لصديقي وكان حافظا للقرآن الكريم، وهذا بنظري لا يعني شيئا، ولكن من باب أن اللغة العربية تعتبر مهمة كونه حافظا للقرآن: لماذا لغة جوالك وكل البرامج فيه ولغة الكمبيوتر لديك بالإنكليزية؟ قال: "يا أخي صعب التعامل بالعربية، أحس أن فيه شيئا مش صح".
قبل فترة يكلمني طالب طاجكستاني فقال: "عجيب ليس هناك عربي طلب صداقتي في التواصل الاجتماعي إلا وكاتب اسمه باللغة الإنكليزية، لماذا لا تكتبون أسماءكم بالعربية؟"، قلت له ساخراً: "من أجل يكون ملائما للبرستيج وذوق العصر".
في العام 2016 في الهند، قال صديقي: تعمدت أن أبحث عن عمارة ليس فيها مسلمون، قلت له يومها مازحا: على أساس أنك مسيحي، قال: لا بس يا أخي أشتي آخذ راحتي من ناحية، ومن ناحية قال تعاملهم تعبان.
على مستوى القراءة أيضاً، من خلال ملاحظتي للموضة التي بدأت الآن في أوساط الشباب، توجههم نحو الروايات الغربية والأجنبية، أكثر من ميلهم نحو الروايات والكتب العربية، مع أن ما يقدمه الكاتب العربي شيء يضاهي في طرحه ومستواه ما يُقدم في الغرب. بل في نظري ما يقدم حالياً في الغرب من روايات لم يعد كما كان سابقاً، بتنا نجد روايات لا روح فيها، وذلك أن الروح منزوعة من ثقافتهم قبل أن تكون في رواياتهم، خيال بلا روح.
قبل فترة طلب مني صديقي رواية عربية ولكن بشرط أن تضاهي رواية شيفرة دافنشي لدان براون، قلت له قرأت شيفرة دافنشي ولم أكملها ولم أجد فيها شيئا مُلفتا، ولكن لك أن تقرأ "موت صغير" لعلوان، أو "حرب الكلاب الثانية" لنصر الله، قال: من العناوين شكلهم ما يطمئن، قلت له: لو كان مكتوب عليها اسم أجنبي لوجدتها تطمئن.
حتى على مستوى الغناء، وجدت الكثير من الشباب يتجهون نحو الأغاني الإنكليزية، قلت مرة لأحدهم: ماذا عساك تشعر جراء سماعك هذا الصراخ والدبيج؟ قال نريد أن نتعلم اللغة الإنكليزية. يعني لن تتعلمها إلا من هذا العويل والصراخ.
بعد هذا كله والعلامات كثيرة على الهروب مما هو عربي أو إسلامي من ثقافة وأدب وموروث شعبي وفلكلور، كنت بالغالب أجد صعوبة في تفسير هذه الظاهرة. وأقول في نفسي إن ما بعد هذا الفعل إلا المغادرة واللاعودة، اليوم وأنا في خضم قراءة كتاب العودة إلى الذات للمفكر الإيراني الكبير علي شريعتي، عرفت ما هي الدوافع التي قد تجعل شخصا ما يُبدي هذا النفور والتنكر للغته وثقافته وكل ما ينسب إليه، وإن كنت أرجع ذلك النفور إلى جملة دوافع ومسببات لها علاقة بالوضع الذي تعيشه النفسية العربية والمسلمة بشكل عام، منذ ما يقارب 50 عاماً، إلا أنه لفت انتباهي قول شريعتي وهو يتساءل: "لماذا هذا التظاهر والنفور؟ مما الخوف؟"، ثم يُجيب قائلاً: "إنه الخوف من نفسه، إنه ضائق بنفسه وبكل ما تنسب إليه نفسه وبكل ما يذكره أو يذكره بالانحطاط القادم منه، إنه ممتن لكل من لا يذكره بنفسه، يهرع إليه بفخر بصداقاته أو التظاهر بصداقته. فهو لا يريد أن يرى نفسه وانحطاطه في بني جلدته".
ثم يقول: هذه الذات لماذا هي منفرة بحيث إن كل ما ينتسب إليها وكل من ينتسب إلى ثقافتها أو ماضيها أو دينها تريد أن تتنكر له، يرجع ذلك شريعتي إلى الهزيمة النفسية والانحطاط الذي قدم منه.