19 أكتوبر 2019
عن تفكيك المنظومة الدولية لنزع التسلح
يبدو أن موازين القوى العسكرية في العالم دخلت مرحلةً جديدةً يمكن أن نسمّيها فتنة الصواريخ، فتنةً تهدّد بتواصل عملية تفكيك منظومة نزع التسلح الموروثة عن الحرب الباردة. فكل طرفٍ يتهم اليوم الطرف الآخر بتطوير (ونشر) صواريخ تخرق المعاهدات الدولية ذات الصلة، وتهدد الأمن إقليميا ودولياً. وقد أصبح أي نظام مضاد للصواريخ مصدر قلق لطرفٍ أو لآخر، فروسيا رأت في نشر أميركا نظام الدفاع الصاروخي المسمّى ثاد، القادر على اعتراض وتدمير الصواريخ الباليستية قصيرة المدى والمتوسطة، في كوريا الجنوبية لردع كوريا الشمالية، بعد إطلاقها التجريبي صواريخ باليستية، رأته مساساً بالتوازن الإقليمي، فيما اعتبرته الصين تهديداً لأمنها القومي. كما رأت روسيا، قبل ذلك، في درع الصواريخ الأميركية استهدافاً لأمنها القومي، وخرقاً لمنظومة نزع التسلح. وتتهم أميركا روسيا بتطوير صواريخ تنتهك بنود معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة. وتتسبب هذه الاتهامات المتبادلة والسعي إلى التفوق العسكري بتفكيك تدريجي لمنظومة نزع التسلح الدولية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ورثت روسيا ترسانته النووية، وبذلت الولايات المتحدة جهداً كبيراً لإخلاء الجمهوريات السوفياتية السابقة من الأسلحة النووية السوفياتية، ووضعها كلها تحت سيطرة روسيا، حتى لا يتسبب الانهيار السوفياتي في انتشار نووي يهدّد الأمن الدولي، وحتى يكون لأميركا شريك واحد يتحكّم في ترسانته. وبعد عقد، شرعت الولايات المتحدة في تفكيك منظومة نزع التسلح تدريجياً، في سياق إستراتيجي عالمي مختلف عن مناخ الحرب الباردة ومخاطر التدمير الشامل المتبادل.
بدأ الإخلال بمعاهدات نزع التسلح الموروثة عن الحرب الباردة بانسحاب أميركا رسمياً، في يونيو/ حزيران 2002 من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية الموقعة مع الاتحاد السوفياتي في يونيو/ حزيران 1972، وهي سابقةٌ في مجال تفكيك منظومة نزع التسلح الموروثة عن الحرب الباردة، والتي بفضلها لم تتحوّل الأخيرة إلى حربٍ ساخنةٍ مدمرة للعالم. ويعود قرار أميركا إلى عزمها على تطوير درع الصواريخ المضادة للصواريخ ونشرها لحماية نفسها من "الدول المارقة" أو "محور الشر" (إيران وكوريا الشمالية). لكن روسيا هي المستهدفة في واقع الحال، لأن تطوير هذه الأسلحة المتقدمة موجّه ضد قوىً من مصاف روسيا. وعلى الرغم من تنديد الأخيرة بعدم التزام أميركا بتعهداتها وتفكيكها منظومة نزع التسلح، لم تكترث أميركا بذلك، وسعت إلى بناء درع يعبر عن تفوقها التكنولوجي. هكذا أصبح الانسحاب من معاهدات نزع التسلح أداةً لتحقيق التفوق العسكري. بيد أن هذا يولّد معضلة أمنية، تجعل الطرف الآخر يسعى أيضاً إلى تعزيز قدراته كرد فعل. فضلا عن ذلك، ليست روسيا اليوم روسيا الأمس، إذ يمكن اعتبار نشر الأخيرة صواريخ أس أس سي 8 المتطورة، جنوب البلاد، رداً إستراتيجياً على درع الصواريخ الأميركية. وهذا ما اعتبرته أميركا خرقاً لمعاهدة 1987 بشأن الأسلحة النووية متوسطة المدى (من 500 إلى 5500 كلم).
وتتهم أميركا، ومنذ أشهر، روسيا بخرق معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة، بتطويرها صواريخ نوفاتور 9 أم 729 القادرة على حمل رؤوس نووية، وضرب أهداف على مسافة تصل إلى 1500 كلم. ولا تطالب بسحبها فقط، وإنما بتدميرها وتدمير كل المعدات المتعلقة بها من تجهيزات ومنصات. وكان الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، قد اتهم روسيا في 2014 بخرق معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى لعام 1987. وتمنح أميركا اليوم روسيا مهلة ستة أشهر للقيام بذلك، قبل أن تنسحب من المعاهدة، ويساندها في موقفها حلف شمال الأطلسي ودوله الأعضاء، بيد أن دولا أوروبية تتخوف من السباق نحو التسلح الذي قد ينجم عن إنهاء هذه المعاهدة، خصوصا أن أوروبا، بحكم الجغرافيا، ستكون مسرحاً لنشر هذه الصواريخ وهدفاً لها. بينما تؤكد روسيا أن مدى صواريخها دون 500 كلم، وأنها تلتزم ببنود معاهدة الصواريخ المتوسطة. وتندّد، في الوقت نفسه، بعدم نية واشنطن السماع لحججها
والتفاوض معها، ما يؤكد، في رأيها، أن أميركا اتخذت قرار الانسحاب من هذه المعاهدة منذ أشهر.
يعد هذا الخلاف أحد مجالات الصراع بشأن الصواريخ والصواريخ المضادة. ويبدو أن الاهتمام الأميركي بالأمر لا يعني روسيا فقط، وإنما الصين أيضاً، فالقصد من الضغط على الأولى استهداف الثانية أيضاً، لأن المشكلة بالنسبة لأميركا وجود الصين خارج هذه المعاهدة، ما يسمح لها بتطوير صواريخ من دون الخضوع للقيود المفروضة على روسيا وأميركا بحكم معاهدة 1987. لذا لا يعني الضغط الأميركي بالضرورة عزمها على الانسحاب من هذه المعاهدة، وإنما إيجاد حالة من القلق دولياً تقود إلى دفع دول (مثل الصين)، قادرة على تطوير هذه الأسلحة، إلى الانضمام إلى المعاهدة. المؤكد أنه ليس من مصلحة الدول، كبيرة وصغيرة، أن تفكّك منظومة نزع التسلح الدولية، لأن المساس بها قد يدفع القوى الدولية نحو سباق للتسلح وخيم العواقب اقتصادياً، لأنه سيثقل عاهل الاقتصاد العالمي، وأمنياً، لأنه سيزيد من المعضلة الأمنية ومن مخاطر الحروب، وإن كان الرعب النووي سيحول دون حدوثها بين القوى الكبرى. ومن ثم، لا يمكن لفواعل عاقلة، في العلاقات الدولية، أن تفرّط في هذا الإرث الإستراتيجي، المتمثل في منظومة نزع التسلح التي تم إرساؤها إبّان الحرب الباردة.
بدأ الإخلال بمعاهدات نزع التسلح الموروثة عن الحرب الباردة بانسحاب أميركا رسمياً، في يونيو/ حزيران 2002 من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية الموقعة مع الاتحاد السوفياتي في يونيو/ حزيران 1972، وهي سابقةٌ في مجال تفكيك منظومة نزع التسلح الموروثة عن الحرب الباردة، والتي بفضلها لم تتحوّل الأخيرة إلى حربٍ ساخنةٍ مدمرة للعالم. ويعود قرار أميركا إلى عزمها على تطوير درع الصواريخ المضادة للصواريخ ونشرها لحماية نفسها من "الدول المارقة" أو "محور الشر" (إيران وكوريا الشمالية). لكن روسيا هي المستهدفة في واقع الحال، لأن تطوير هذه الأسلحة المتقدمة موجّه ضد قوىً من مصاف روسيا. وعلى الرغم من تنديد الأخيرة بعدم التزام أميركا بتعهداتها وتفكيكها منظومة نزع التسلح، لم تكترث أميركا بذلك، وسعت إلى بناء درع يعبر عن تفوقها التكنولوجي. هكذا أصبح الانسحاب من معاهدات نزع التسلح أداةً لتحقيق التفوق العسكري. بيد أن هذا يولّد معضلة أمنية، تجعل الطرف الآخر يسعى أيضاً إلى تعزيز قدراته كرد فعل. فضلا عن ذلك، ليست روسيا اليوم روسيا الأمس، إذ يمكن اعتبار نشر الأخيرة صواريخ أس أس سي 8 المتطورة، جنوب البلاد، رداً إستراتيجياً على درع الصواريخ الأميركية. وهذا ما اعتبرته أميركا خرقاً لمعاهدة 1987 بشأن الأسلحة النووية متوسطة المدى (من 500 إلى 5500 كلم).
وتتهم أميركا، ومنذ أشهر، روسيا بخرق معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة، بتطويرها صواريخ نوفاتور 9 أم 729 القادرة على حمل رؤوس نووية، وضرب أهداف على مسافة تصل إلى 1500 كلم. ولا تطالب بسحبها فقط، وإنما بتدميرها وتدمير كل المعدات المتعلقة بها من تجهيزات ومنصات. وكان الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، قد اتهم روسيا في 2014 بخرق معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى لعام 1987. وتمنح أميركا اليوم روسيا مهلة ستة أشهر للقيام بذلك، قبل أن تنسحب من المعاهدة، ويساندها في موقفها حلف شمال الأطلسي ودوله الأعضاء، بيد أن دولا أوروبية تتخوف من السباق نحو التسلح الذي قد ينجم عن إنهاء هذه المعاهدة، خصوصا أن أوروبا، بحكم الجغرافيا، ستكون مسرحاً لنشر هذه الصواريخ وهدفاً لها. بينما تؤكد روسيا أن مدى صواريخها دون 500 كلم، وأنها تلتزم ببنود معاهدة الصواريخ المتوسطة. وتندّد، في الوقت نفسه، بعدم نية واشنطن السماع لحججها
يعد هذا الخلاف أحد مجالات الصراع بشأن الصواريخ والصواريخ المضادة. ويبدو أن الاهتمام الأميركي بالأمر لا يعني روسيا فقط، وإنما الصين أيضاً، فالقصد من الضغط على الأولى استهداف الثانية أيضاً، لأن المشكلة بالنسبة لأميركا وجود الصين خارج هذه المعاهدة، ما يسمح لها بتطوير صواريخ من دون الخضوع للقيود المفروضة على روسيا وأميركا بحكم معاهدة 1987. لذا لا يعني الضغط الأميركي بالضرورة عزمها على الانسحاب من هذه المعاهدة، وإنما إيجاد حالة من القلق دولياً تقود إلى دفع دول (مثل الصين)، قادرة على تطوير هذه الأسلحة، إلى الانضمام إلى المعاهدة. المؤكد أنه ليس من مصلحة الدول، كبيرة وصغيرة، أن تفكّك منظومة نزع التسلح الدولية، لأن المساس بها قد يدفع القوى الدولية نحو سباق للتسلح وخيم العواقب اقتصادياً، لأنه سيثقل عاهل الاقتصاد العالمي، وأمنياً، لأنه سيزيد من المعضلة الأمنية ومن مخاطر الحروب، وإن كان الرعب النووي سيحول دون حدوثها بين القوى الكبرى. ومن ثم، لا يمكن لفواعل عاقلة، في العلاقات الدولية، أن تفرّط في هذا الإرث الإستراتيجي، المتمثل في منظومة نزع التسلح التي تم إرساؤها إبّان الحرب الباردة.