عن حالة المواطن موسى المرشّح قسراً

20 مارس 2018
+ الخط -
لعل السؤال الأكثر تكرارا وتداولا في مصر، سواء في الأوساط المنخرطة في المجال العام أو غير المهتمة بالعمل السياسي، هو ما فائدة العملية الانتخابية التي تجري في مصر الآن، وما جدوى كل هذه الدعاية المكثفة للرئيس عبد الفتاح السيسي، والتى تغطي الجدران والشوارع بعبارات التأييد والمبايعة، ولماذا كل هذه المطالبات بالمشاركة في الانتخابات، وتجريم المقاطعة ومهاجمة الداعين إليها، إلى حد وصفهم بالخونة وأهل الشر.
تنبع أسس السؤال الاستنكاري لدى المتخصصين في الشأن السياسي وبين جموع المواطنين، من شكل العملية الانتخابية، وسماتها ومضمونها، والتي فقدت معناها، ووظيفتها، فالانتخابات التي تجري حاليا ليست أداة لانتقال السلطة، ولا تحمل تنافسا بين مرشحين، بالإضافة إلى أنها تجري في غياب للحد الأدنى من شروط إجرائها، وفى مقدمتها وجود مساحة من الديمقراطية، واحترام الحق في التنظيم والتعبير والاختلاف، بالإضافة إلى وجود كتل قادرة على عرض الأفكار والبرامج المغايرة، بالإضافة إلى غياب للأحزاب أو جبهات سياسية تمثل كتلا جماهيرية متباينة، تطرح كل منها مرشحها، وتتنافس فيما بينها للوصول إلى السلطة، وفى ظل هذا المشهد لا معنى للانتخابات، ولا مصداقية لها، ولا جدوى تُرجى منها.
عرفت مصر تنافسا سياسيا للوصول إلى البرلمان، في فترات متنوعة في تاريخها الحديث، أبرزها معارك وصول حزب الوفد إلى رئاسة الحكومة، كما شهدت مصر معارك شعبية من أجل كتابة دستور يمثل المصريين، وتصدت الحركة الوطنية لحكومة إسماعيل صدقي، وطالبت بإسقاط دستور 1930، وعودة دستور 1923، وقاطعت انتخابات عام 1931، وانتصرت إرادة الشعب بعودة دستور 1923، والذى كتب عقب ثورة 1919. وعرفت مصر، بفضل ثورة يناير، أول انتخابات رئاسية حقيقية، تنافست فيها تيارات اليمين الديني، واليسار، وكذلك القوى التقليدية المنتمية لدولة حسني مبارك، وتقاسمت تلك التيارات أصوات المصريين.

قبل فتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة 2018، استأثرت السلطة بوضع قواعد هذه الانتخابات وخطواتها الإجرائية، وقبلها بأربع سنوات، وضعت السلطة بشكل تدريجي حواجز للفعل السياسي، ليظل صوتها الوحيد المسموع، ولكي لا تتوفر فرص مشاركة لغير ممثلها، بل منعت كل من تقدّم للمنافسة في الانتخابات بمناوراتٍ متعدّدة الأوجه، تحمل معاني السلطوية والاستبداد وممارساتهما.
كتلة المعارضة الرئيسية المتمثلة في الإخوان المسلمين تم استنزافها سياسيا وماليا وتنظيميا، وهى غير راغبة في خوض الانتخابات، بوصف أنها ترى نفسها الأحق بالسلطة، وأنها أبعدت بعد حراك 30 يونيو، كما أنها أصبحت بعد تجربة إخفاقها في الحكم، وبعد ارتباكها وتخبطها بعد 30 يونيو، أضعف من أن تقدم بديلا سياسيا. أما باقي الكتل السياسية فقد حاولت تقديم مرشحين لها، قدّمت مجموعات يسارية وشبابية المحامي خالد علي، بينما قدمت القوى التقليدية المحافظة والمنتمية إلى جهاز الدولة مرشحين، آحمد شفيق آخر رئيس وزراء عهد مبارك، والفريق سامي عنان. ويمثل الاثنان كتلا سياسية واجتماعية غير راضية عن عبد الفتاح السيسي، وترغب في وجود ممثل لها، ويعكس ترشحهما حالة شرخ لحق ببنى السلطة التي كانت موحدة في 2014. واصطفت مع المرشحين بعض القوى السياسية، رغبة في الانعتاق من حكم النظام عبر الانتخابات، أو منافسته على الأقل وعقلنته، والحد من هيمنته، لكن المرشحيْن، شفيق وعنان، تم التضيق عليهما ثم منعهما من خوض الانتخابات. وضع شفيق قيد الإقامة الجبرية أسبوع في فندق، وما زال سامي عنان قيد الحبس والتحقيق، وظل خالد علي مرشحا محتملا وحيدا، حتى اختار الانسحاب بعد اتضاح نوايا السلطة بشكل كاشف، بأنها غير راغبة في إجراء انتخابات حقيقة، ولن تسمح لأي مرشح في طرح رؤيته، والسماح له بالحركة في إطار تنافسي.
بقي السيسى مرشحا وحيدا، ما أظهر السلطة في مشهدٍ محرج خارجيا، فذهبت تبحث تحت ضغط تحسين صورة النظام عن شكل انتخابي، يخرجها من عملية الاستفتاء، وهو ما كان سيعود بالزمن إلى تاريخ امتد من تأسس جمهورية يوليو 1952، وحتى انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2005، والتي سمح فيها مبارك، تحت ضغوط أميركية بإجراء انتخابات رئاسية، ترشح فيها المعارض أيمن نور رئيس حزب الغد، وبعض رؤساء الأحزاب التي كانت تخوض الانتخابات ديكورا مكملا لتنصيب مبارك فترة رئاسية جديدة.
المشهد اليوم أقل صدقا من مشهد أول انتخابات 2005، فأيمن نور كان يخوض المعركة ببرنامج ورؤية، وطموحا في التغيير، قد لا تحققه نتيجة الأصوات التي سيجمعها في الصناديق، لكن الانتخابات ستساهم في تجميع كتل شبابية وجماهيرية رافضة استمرار نظام مبارك، ويخلق من هذه الكتلة جبهة معارضة تحت قيادته. استطاع نور، وعلى الرغم من التزوير، الحصول على نصف مليون صوت، وحصل مبارك على ستة ملايين من أجمالي سبعة ملايين، وجاءت ثورة يناير لتقطع فترة الحكم الخامسة قبل أن تكتمل.
اليوم يقف المواطن موسى مصطفى موسى، أحد مؤسسي حزب الغد، والذي سبق وساهم في شق صفوف هذا الحزب، وحاول حرق مقره الرئيسي، ليُحدث مشهدا بائسا بترشيحه في الانتخابات الرئاسية بأمر السلطة. انتقل موسى جغرافيا من مقر حزب (غد أيمن نور) في ميدان طلعت حرب إلى مقر حملته الرئاسية (غد موسى) في شارع صبري أبو علم في القاهرة، صحيح إن المسافة اقل من 500 متر بين المقرين، إلا إن حجم التغير في الأدوار كبير، بحكم المصادفات التي لم تجد فيها السلطة شخصية أكثر طواعية واستجابة لأوامرها منه، بالإضافة إلى دعائم قيامه بهذا الدور، بحكم سابق المعرفة التي يمكن وصفها بالعلاقة التاريخية بين موسى وأجهزة الدولة، كما أنه من "المواطنين الشرفاء" الذين يؤيدون عبد الفتاح السيسى.
تثير حالة المواطن المصري موسى مصطفى موسى الذي تلقى تعليمات لخوض الانتخابات، وجمعت له الدولة توكيلات النواب للترشيح الشفقة، فهو يعلم أن المشهد مصنوع تماما، ولا أحد يحترم دوره، حتى الذين يدعون إلى المشاركة ليل نهار، سواء من خلال لافتات التأييد أو مؤتمرات الحشد الجماهيري، أو حتى المشايخ والدعاة ورجال الدين المسيحي الذين وظفتهم السلطة لخدمتها.
تعرف بلادنا العربية ظاهرة المرشح المبتز، الذي يعلن نيته للترشح، ليحصل على رشوة من المرشح الأوفر حظا في الفوز. وسرعان ما ينسحب المرشح إياه، ويعلن تأييده المرشح الذي يقدر انسحابه بالمصري "يعرقه"، وهو الدور الذي يلعبه بعض السماسرة في المزادات، للحصول على مكاسب من دون مجازفة، لكن موسى لم يقرّر الترشح من نفسه، ولا يستطيع التهديد بالانسحاب، ولا يبيع أو يشتري.
لا يرى المواطن المرشح قسرا، موسى مصطفى موسى، خجلا في إعلان أن الصحافة تجامله على حساب السيسي، ولا يستطيع، في هذه الوضعية، أن يقدم شيئا في أحاديثه للإعلام، على الرغم من كثافة طلباتهم بتقديم خطاب جاد. وحين ترسل إليه الكاميرات إلى مقر حملته، فوجئ أحيانا بأنه مشغول بمتابعة أعمال شركته. وكان مشهدا كاشفا أن موسى مصطفى موسى
استطاع تجميع 25 فردا لتأييده في وقفة أمام مقر حملته، لم يجد ما يقوله أمام الكاميرات سوى مهاجمة الداعين إلى المقاطعة والهجوم على أهل الشر، مكرّرا خطاب السيسى عن دور المشاركة في الانتخابات الذي يقوّي الدولة ويدعمها. على جانب آخر من الوقفة المؤيدة لموسى، كان أحد المشاركين في الوقفة يرد على سؤال لصحفي، مؤكدا أن صوته للسيسي، على الرغم من أن موسى ابن عمه.
باختصار، لا يسلّم أحد، تحت وطأة القمع المكثف، وحبس المعارضين، وإبعاد من كان لديهم رغبة في خوض الانتخابات، بصدق ما يجري تحت يافطة "الانتخابات" أو بجديته، بل ينظر إليها بوصفها نكته سخيفة، رديئة في الإخراج والسيناريو والديكور. فالانتخابات تحولت من أداة لتداول السلطة والتغيير السلمي إلى هدف في حد ذاتها، وبالأداة التي من المفترض أن تنتج تغيرا للحكم، سيستمر النظام، بشكل ممسوخ من الانتخابات التي لا تمثل فيها الصناديق إلا خيال مآتة، تستخدم الانتخابات فى ظل ثورة التكنولوجيا والاتصال والإعلام، لإثبات للخارج أن هناك انتخابات تجري، وأن ثمة تنافسا بين مرشحين، وأن الدستور مصون، والحاكم يقبل الاختلاف والتنافس مع مرشح آخر، وليس كما يزعم أهل الشر إنه يحكم بسطوة الخوف وإبعاد معارضيه أو سجنهم أو تخويفهم في أقل تقدير، وإبعادهم عن ساحة السياسة، إلا إذا كان مثل حالة المواطن موسى مصطفى موسى.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".