عن ربيع شباط في الريف المغربي

11 فبراير 2015
(Getty)
+ الخط -
هنا الرحامنة، قرية قبيلة عريضة في المغرب، التي معظم ترابها قروي، يتألّف من دواوير متناثرة هنا وهناك، كما الأحاجي العتيقة والجميلة، لكنّها تشغل البال دائما.

على خدّ النهارات تبدو القرية وديعة. هي بساطة المكان، التراب ما بين الأحمر والبني كشوكولا مبشورة لتوّها، والبيوت الطينية دافئة كما الشمس. خارج كلّ دار "جُنان" (بضم الجيم باللهجة المغربية) يحيل على بستان يحيط بالبيت، تجد فيه أشجار الأوكاليبتوس والزيتون والليمون وكرماتال تين وغيرها.

لكنّ الأبرز والمشترك بين كل الجُنانات في المنطقة، هي نباتات الصبّار العظيمة، الصبورة كأهل المكان، القرويين البسطاء الذين تمعن البساطة والطيبة في تحلية عيونهم، رغم قسوة الجهد وضنك المعيشة، اللذين يشقّان أخاديد الزمن على أيديهم.

هنا السماء مرادف للرزق والأرض للعطاء، وبين السماء والأرض تدور حياة القرويين دوراتها ببساط وجميل متعبين. كل الفصول تبدأ من مطر وحرث وتنتهي إلى صيف وحصاد، وبين الزرع اليانع وقطافه مواسم الرجاء، وكلّ الآمال معلّقة بين ماء وتراب ونتاج. تحسّ هنا كما لو أنّ الأرض تضطرب لاضطراب آمال الفلاحين، تصهد وتستبق ربيع مارس/آذار في فبراير/شباط.

أذكر ما كتبه صديق أوّل أيام فبراير/شباط: "لا أحبّ فبراير، لكن للشهر كرامته، يرحل سريعاً؛ لأنّه يعلم أنّه غير مرغوب فيه"، فضحكت يومها كثيراّ: كيف لفبراير أن يكون شهراً غير محبوب؟ وكيف لصديقي ألا يلمس أكفّ نذوره الموزّعة هنا وهناك كالوعد؟

يكفي أنّ شباط يعد القرويين بالموسم السعيد الآتي، فإذا غيّمت سماؤه يكون الصيف حافلا بالمساءات الجميلة والراضية بعد أيّام عمل جيّدة، وكلّما حلّ تحسّسنا نحن الفلاحين أرضنا كما يتحسّس عاشق نبض قلبه. ويعدنا شباط أيضاً بالربيع. فعندما تمطر أكثر تزهر أكثر ورود مايو/أيار.

الأيام الماضية أمضيت وقتي كلّه في الرحامنة، أرقب الأرض في قريتي كيف تزهر كفتاة تكبر، أرقب "الكركاز" و"الجمرة" و"الكحوان"، زهراتنا البهيات الغامرات الدفء كألوانها المشعّة، وقد صارت تزيّن الطرق وتختال بين السنبلات الفتيات في الحقول، وصرنا نقطف لكلّ صباح باقة.


في الحقل، عندما يرفع الفلاح رأسه عن تعهده، يمسح جبينه ناظراً إلى الشمس التي بدأت تتكبّد وسط السماء، ما إن تزحف الغيمات الممطرات إلى مكان آخر، يبتسم لصهد الأرض وينتظر أن يتفتح "بلعمان" كسنبلاته، شقائق النعمان في دير أخرى، وفي أرضنا نسمّيه "بل"، تشديدا على الانتماء.

هذا فبراير/شباط يزهر باكراً في قريتي الجميلة. قل هو ربيع فبراير/شباط حين تبدأ أحلام العطل الربيعية في القرى تستوطن مخيّلة المدينيين. فكيف لهذا الجمال الذي يشيعه هذا الشهر المتذبذب بين الشتاء والربيع ألا يعاش في موطنه؟

لذا ما إن تعلن المدارس عن عطل بينية، حتّى ترى قوافل الأهل والأصحاب تعود إلى مسقط الرأس ومبعث الهوى المستبق للربيع. حتّى الغابات على جانبي الطرق الرئيسية بين المدن التي تشقّ قرى المغرب وأراضيه الفلاحية تحتفي بـ"نُزاهات" (بضم النون) العائلات، فتتزيّن لهم زينة الفرحة الأولى وتمدّ زرابي الألوان الربانية على مدّ البصر... في وقت مستقطع للروح، لرؤية العالم بسيطاً وآمناً ومسالماً ونقياً كما شاءت له الفطرة الأولى أن يكون.

هذا شباط دلالة القروي/الفلاح على حصا صيفه ووعد الربيع البيّن. هذا شباط الربيعيّ في بلادي الجميلة. 

المساهمون