ذات يوم، أطلق عالم الاجتماع المصري السيد يسين لقب "المعايير الإيكولوجية" على معايير استند إليها كتّاب في العقود الأخيرة من القرن العشرين، في الحكم على جودة أو رداءة قصيدة ما. ولم يكن في حسابه ولا في حساب أي قارئ آنذاك أن هذه المعايير ستنحطّ إلى ما هو أسوأ مع مطلع الألفية الثالثة، فتتخذ أشكالاً أخرى؛ تصبح معايير "زواريب" أو "حارات" أو "أحياء"، حسب العاصمة العربية التي تُصنّع وتُسكّ فيها هذه المعايير. فما هي هذه المعايير الإيكولوجية؟ وأين تم تداولها؟ ومن الذي شارك في ترويجها؟
بداية، تتلخّص هذه المعايير في قياس "الشعرية" بالجواب على أسئلة من نوع "أين يقيم الشاعر صاحب القصيدة؟" و"هل يحيا حياة رخيّة أم متقشفة؟". فإذا تبيّن أن صاحب القصيدة يقيم في الأرض المحتلة مثلاً، أو حدث وأن سُجن، عُدّت قصيدته فذّة وفوق الوصف والنقد، أما إذا تبيّن أنه يحيا حياة عادية في القاهرة أو دمشق أو بغداد، ويعيش في حجرات مكيّفة، ويجلس في المقاهي، فإن قصيدته من سقْط المتاع وغير جديرة بالتفات ناقد أو قارئ.
هذه قصّة من الشائق روايتها، لأن غالبية أجيال القرّاء العرب من الشباب لا تملك وسيلة للوصول إلى بطون الصحائف القديمة، حتى وإن أرادت، بعد أن وقعت ضحية مقرّرات نقدية لم تكن في الأصل إلا أساطير رديئة صنعتها مصالح غير أدبية ولا تنتمي إلى عالم الثقافة.
بداية، تحضرنا هذه الواقعة الموثّقة: نشرَت مجلة "شعر" اللبنانية قصائد لعدد من الشعراء الفلسطينيين تحت عنوان عام هو "من وراء الأسلاك الشائكة" ("شعر"، عدد رقم 38 ربيع 1968) على أساس أنها من شعر المقاومة، وتصادف أن أضافت المجلة ما رأت أنه يلبّي شروط هكذا شعر من قصائد الراحل محمد القيسي. وهنا سارع أحدهم في مجلة أدبية إلى الزعم بأنه من الـ"خطأ" نسبة قصيدة القيسي إلى شعر المقاومة ومنحها قيمة، استناداً إلى معيار "إيكولوجي"، أي أن صاحبها لا يقيم في الأرض المحتلة.
لنفهم هذا التقييم "الإيكولوجي" علينا العودة إلى البداية، وتحديداً إلى يوليو/ تموز 1969، حين نشرت مجلة "الآداب" البيروتية مقالة للناقد الراحل غالي شكري، حاول أن يضيء فيها جانباً ساده الاختلاط وسط الاحتفاء المبالغ فيه بشعر شعراء فلسطينيين ينتمون تحديداً إلى "الحزب الشيوعي الإسرائيلي".
في هذه المقالة، ميّز الناقد بين شعر "معارضة" يكتبه شعراء في الأرض المحتلة (الذين اشتهروا لهذا السبب الإيكولوجي/الأيديولوجي الذي لمح إليه شكري) وبين شعر "مقاومة" يكتبه شعراء فلسطينيون في المنفى. ومما قاله حرفياً: "إسرائيل هي في المضمون الصراع اليومي بين دولة عنصرية غاصبة وشعب مغلوب على أمره.
من هذه النقطة، نستطيع أن "نتفهّم" شعر المعارضة العربية في الأرض المحتلّة.. أما شاعر المقاومة فقد كان المنفى موقعه.. وهو لم يكن يملك في حقيقة الأمر إلا أن يقاوم، فالمعارضة لا مكان لها في موقعه".
وفي خضم الجدال الذي نشأ آنذاك، تورّط الشاعر الراحل محمود درويش في الانحياز إلى النظرية الإيكولوجية، فكتب سطوراً تكاد تكون ردّاً على ما طرحه شكري، دعا فيها إلى نبذ ما أسماه الأخير "شعر المقاومة" الذي يُكتب في المنفى، وتبنّي الشعر الذي يكتب فقط في ما سمّاها "إسرائيل".
جاء في مقالة له: "إن الشعر الذي يُكتب في إسرائيل بشكل عام أقرب إلى صدق التجربة والأصالة من غيره في تصوير صراع الإنسان الفلسطيني، وكلمة الصدق هي الجديرة بتركيز الانتباه حولها في سياق المقارنة التي تمتدّ إلى ميزات أخرى لهذا الشعر يفتقر إليها شعر القضية الفلسطينية الآخر" ("الآداب"، آب/أغسطس 1969)، والمقصود بعبارة "شعر القضية الفلسطينية الآخر" كما يتّضح من السياق هو الشعر الذي يُكتب خارج فلسطين المحتلّة.
وعلّق الناقد عبد الغفار مكاوي على مقالة شكري، مؤسّساً لهذا النهج في نبذ الشعر الذي يُكتب خارج فلسطين المحتلّة، بالقول: "من الطبيعي أن تأتي أصدق أشعار المقاومة من شعراء يقاومون بالفعل.. لا أستطيع أن أقبل شعراً عن المقاومة من شاعر يثرثر في مقاهي القاهرة أو يعيش في حجرات مكيّفة الهواء في غيرها من المدن العربية". ("الآداب"، آب/ أغسطس 1969).
ليأتي من ثم الرد من السيد يسين، في محاولة عقلانية لتعديل هذا الانحراف، فيكتب: "ما مدى صحّة هذا الرأي؟ لا نستطيع أن نقبل معايير خارجة تماماً عن نطاق العمل الأدبي نفسه للحكم على صدقه أو زيفه، جودته أو رداءته.
فمثل هذه المعايير إن قُبلت تقتضي من قارئ الشعر أن يتساءل أولاً، أين يقيم الشاعر صاحب القصيدة؟ أيقيم داخل الأرض المحتلّة أم في القاهرة أم دمشق وبغداد؟ وهل يحيا حياة رخيّة أو يحيا حياة متقشّفة تتناسب مع جلال الموضوع الذي يعالجه وهو المقاومة؟ هذه المعايير الإيكولوجية.. لا تصلح أساساً لقبول الشعر أو رفضه" ("الآداب"، أيلول /سبتمبر 1969).
وحين نقرأ ما يكتب في هذه الأيام، عن شعر يأتي من هنا وهناك، نتساءل: هل استقامت القيم النقدية ونجت من التشويه الإيكولوجي؟
اقرأ أيضاً: نيل غوردون.. كنتُ في فلسطين