14 مايو 2018
عن غزة والجنون
فادي الحسني (فلسطين)
كان يرتدي معطفاً صوفياً، على الرغم من حرارة الجو، يجلس على مقعدٍ بلاستيكي في منتصف الحديقة. أشار صديقي الطبيب النفسي بأصبعه من علو، وقال: "ذلك الشخص الذي اخبرتك عنه، إنه يعاني اضطراب ما بعد الصدمة، ويعيش حالة يرثى لها".
قبل أن يفوتني، فإن اضطراب الصدمة تعرض له سكان غزة كافة، من رضيعهم وحتى كهلهم، بدرجات متفاوتة، بحكم الحروب التي تمر على القطاع بين فترة وأخرى (2008-2012-2014)، تساقط حممها فوق رؤوس السكان والمساكن، فتبقي ما تبقي وتسلب ما تسلب، ويظل من تبقى من الأحياء يعاني اضطراباً عابراً أو دائماً. وهنا أقدم تفسيراً في حدود إدراكي ومعرفتي الأشياء، بصفتي صحفياً، ولست طبيباً أو مختصاً.
وعلى سيرة الاختصاص، معظم أطباء الصحة النفسية في غزة يؤكدون إصابة مئات من المواطنين بهذا النوع من المرض النفسي. ولكن، كما يقول أحدهم، على سبيل الطرفة، "استمرار الحديث عن المشكلات النفسية التي لا تنتهي ستعجلنا نعيد التفكير في ذواتنا، إذا ما كنا أصحاء أم مجانين، بحكم أننا جزء من هذا المجتمع".
وحتى لا أكون مثل الأطرش في الزفة، سألت الطبيب، وأنا ألمز إلى صاحبنا الجالس في الحديقة: "ما حكاية هذا الرجل؟". أجاب: "إنه يعاني من اضطراب دائم من جراء الحرب وحالة فزع.. هو قلق جداً من تكرر هدم بيته. لهذا، فكر في الهجرة، لكنه اصطدم بإغلاق المعبر. تنهدت مطولاً لحظتها، كحال أهل غزة، عندما يسمعون كلمة معبر".
والمعبر، يا سادة، بوابة حديدة ضخمة، جميعكم رآها عبر شاشة التلفاز، تفصل غزة عن شمال سيناء، مقفولة بالضبة والمفتاح، وإذا سألنا عن المفتاح، فهو يدور في دائرة مغلقة، تشبه تماماً ما جاء في الأهزوجة الشعبية: المفتاح عند الحداد، والحداد بدو بيضة، والبيضة عند الجاجة، والجاجة بدا قمحة، والقمحا بالطاحونة، والطاحونة مسكرة، فيها مية معكرة وهون مقص وهون مقص، وعنا معبر بده قص.
وحتى لا يُظن أن ختام الأهزوجة بقص المعبر دعوة للتعدي، لا قدر الله، على السيادة المصرية، فأنا قدمتها سجعاً لا وجعاً. على أي حال، الاستنتاج الذي توصلت إليه من قصة صاحبنا المريض بالاضطراب أن الفلسطينيين الذين تهربوا من غزة، في أعقاب الحرب الأخيرة على القطاع، الصيف الماضي، متسللين عبر الأنفاق الأرضية، وصولاً إلى شاطئ الإسكندرية، طمعاً في الهجرة إلى إيطاليا، ربما كان جزء كبير منهم يعاني الاضطراب نفسه، فقاد عائلته مرغماً نحو الهجرة، جزءاً من العلاج، أو التخلص من الحالة التي يعاني، فأضحت توابيت عائمة على ضوء غرق المراكب التي أقلتهم.
وعلى ضوء فهمي لبعض المشكلات والأزمات التي تترك ندوباً نفسية عميقة، فإذا كان الاكتئاب يؤدي إلى الانتحار، فإن اضطراب الصدمات المتتالية، بدءا بالحصار والحرب وإغلاق المعبر، وما بعدها، يعني الموت البطيء لسكان هذا القطاع، لأنه يصادر ما تبقى فيهم من أمل، ويحولهم إلى اشخاص يجلسون في الحدائق، مثل صاحبنا، وأذهانهم معلقة في الخارج!، وقبل أن تسألني عن أي خارج أتحدث، تمعن في سياسة العالم تجاه غزة، تدرك أنني أتحدث عن "الجنون".
مقالات أخرى
18 يناير 2018
21 مايو 2016
07 مارس 2016