عن قيادة السعوديات السيارات
ثارت قضية السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة، مرة أخرى، حين تناقلت وكالات الأنباء، أخيراً، وفي مقدمتها "أسوشيتدبرس"، أن مجلس الشورى السعودي رفع توصيةً، الشهر الماضي، برفع الحظر جزئياً عن قيادة المرأة السيارة في المملكة. ومع أن توصيات المجلس ليست ملزمة للحكومة، إلا أنها تعضد، إن حدثت، الحراك المجتمعي الكبير القاصد نحو رفع هذا الحظر. وهو حظرٌ ظل مثار دهشة كل سكان الأرض واستغرابهم، فالمملكة العربية السعودية هي القطر الوحيد، في العالم، الذي ترفض فيه السلطات منح جنس النساء ترخيصاً بقيادة السيارة. لكن، لم تمض سوى سويعاتٍ على تناقل وكالات الأنباء والوسائط الإخبارية نبأ تلك التوصية، حتى جاءت تصريحات بنفيه من المتحدث باسم مجلس الشورى السعودي، محمد المهنا. ولم يعد أحد موقناً بصحة رفع تلك التوصية من عدمه.
يحار المرء كثيراً في أمر من يعتقدون أن في وسعهم أن يقفوا ضد طاقات الحياة الجبارة، التي ما فتئت، وما انفكت، تكسر القيود المكبلة لحرية الانسان، رجلاً وامرأةً، وتغيُّر القديم بالحديث، كل صباح جديد. فيا ترى، ما الذي يجعل الذين يقفون ضد حق المرأة السعودية في قيادة السيارة يعتقدون أنهم سوف يصمدون، إلى الأبد، في خنادق الدفاع عن أمرٍ لا يمكن الدفاع عنه أصلاً؛ لا شرعاً، ولا عقلاً، ولا حتى عملاً؟ ما الذي يجعلهم يظنون أنهم سيربحون رهان منع النساء من قيادة السيارات، والذي تقول كل الشواهد، أنه خاسرٌ؟ هل تراهم يستمتعون بمجرد ممارسة التعطيل والإرجاء، ما أمكن ذلك، أم أنهم يظنون أن في وسعهم الإبقاء على هذا المنع، أبد الدهر؟
هناك سؤال لا ينفك يثور في ذهني، وهو كيف يفكر من يقفون ضد قيادة النساء السيارات، في المملكة العربية السعودية، في جيرانهم الخليجيين الذين يسمحون للنساء بقيادة السيارات؟ خصوصاً، أن جيرانهم هؤلاء يرتكزون مثلهم على مرجعية الدين الإسلامي، والثقافة الخليجية؟ بعبارةٍ أخرى: ما الذي يأخذه معارضو قيادة النساء للسيارات في المملكة على الأقطار الخليجية الأخرى التي قادت نساؤها السيارات منذ عقودٍ خلت؟ خصوصاً أنها، كما نرى، لا تزال مجتمعاتٍ محافظةً، تقيم وزناً كبيراً جداً لتعاليم الدين الإسلامي، ولتقاليد الأسرة العربية المتوارثة، وللصون وللانضباط الأخلاقي؟
حق المرأة في أن تقود السيارة، وضرورة أن تقود السيارة في عالم اليوم، لا يحتاجان إلى دليل، إلا إذا احتاج ضوء النهار إلى دليل، كما يقول بيت الشعر المعروف. مع ذلك، لابد من القول إن الوقوف ضد قيادة المرأة للسيارة لا يسنده الشرع، إن فُهمت مقاصد الشرع على وجهها الصحيح. كما لا يسنده العقل، ولا تسنده حتى البداهة البسيطة. فمن الناحية الشرعية المحضة، الأفضل للمرأة أن تقود سياراتها بنفسها، بدل أن يقودها سائق الأسرة، الذي هو، في حكم الشرع، رجلٌ أجنبيٌّ. أو يقودها سائق سيارة الأجرة الذي ينطبق عليه الوصف نفسه. فوجود المرأة داخل سيارة مع رجلٍ أجنبي يُعد، من ناحية الشرع، "خلوةً شرعية" ينبغي أن يتجنبها أولئك الذين يحرصون على تطبيق تعاليم الدين. وفي تقديري، لا يغير من وضع "الخلوة الشرعية" تحايل بعضهم عليها بحشر بعض أطفال الأسرة، أو عاملة المنزل، في السيارة مع السائق والراكبة. فشبهة الخلوة تظل، لاعتباراتٍ لا حاجة لرصدها هنا، قائمةً في هذا الوضع. والحديث الشريف يقول: "فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه ولعرضه".
أما من ناحية العقل، فقد أفرزت الحياة الحديثة طاقاتٍ جديدةً، وفتحت للمرأة آفاقًا جديدةً في الفضاء العام، ارتادتها بالفعل، وأثبتت فيها جدارة كبيرة. تحتاج هذه الآفاق الجديدة سعةً وعمقاً في فهم مقاصد الشرع، بما يتلاءم مع الطاقات الجديدة، والفرص الجديدة التي أفرزتها الحياة. فإذا كانت المرأة قد تعلمت إلى الدرجة التي أصبحت بها أستاذةً جامعية، بل ومديرةً للجامعة، فكيف يصح عقلاً أن نأتمنها على عقول الشباب، وعلى سلامة إدارة المؤسسة التي تديرها، ولا نأتمنها على نفسها، فنحرمها من مجرد قيادة السيارة في الطريق العام، أو من السفر بمفردها؟ من المجافي للعقل، تماماً، أن نضع القصور ونقص الأهلية لتحمل المسؤولية الفردية، كله في خانة جندر واحد؛ أي في جنس النساء، لمجرد أنهن إناث. ونضع الرشد كله، وكمال الأهلية لتحمل المسؤولية الفردية، في خانة الرجال، لمجرد أنهم ذكور. فهناك رجال كثيرون، بهم من ضعف العقل، ورقة الدين والخلق، ما يجعلهم لا يؤتمنون على شيء. فهل يصح أن يستمتعوا بالحرية وبالحقوق وبتحمل المسؤولية الفردية، لمجرد أنهم ذكور، وتُمنع النساء من ذلك، لمجرد أنهن إناث؟ أي منطقٍ هذا؟
كما يقولون، لا دخان من غير نار. إذ يبدو أن مجلس الشورى السعودي قد أرسل مذكرة إلى السلطات، الشهر الماضي. ويبدو أن ذلك جرى سراً، كما ذكرت الأنباء التي رشحت. ويبدو، أيضاً، أن تلك التوصية لم تجد الاستجابة التي توقعها رافعوها، فأنكروا إرسالها أصلاً. الشاهد، أن نيل السعوديات حق قيادة السيارات ليس سوى مسألة زمن، لا أكثر. المصرون على منع السعوديات من قيادة السيارات منخرطون في معركة خاسرة تماماً. ولسوف لن يجد المعترضون على منح هذا الحق من مسؤولين، ومن فقهاء، ومن عامة الشعب، بدًا من أن يحنوا رأسهم، يومًا ما، لعواصف الحياة الحديثة العاتية، ويرفعوا هذا الحظر الشاذ، بكل المقاييس. فهم قد حنوا بالفعل رؤوسهم لأمور كثيرة، أصبحت واقعاً لا مجال لزحزحته، أو إرجاع عقارب ساعته إلى الوراء. وما يحاولونه في الإبقاء على حظر قيادة المرأة السيارة، ليس سوى سباحةٍ عكس تيار الحياة، وعكس قوى التاريخ الجبارة الفاعلة، وهي سباحة عسيرة جداً، يتعذر الاستمرار فيها طويلاً.
ختاماً، لا أجد فرقاً يذكر بين موقف من يقولون بحظر قيادة النساء السيارات، ومواقف داعش وأفعالها التي يستنكرها الجميع، تقريباً. فعلى سبيل المثال، جعلت داعش من نساء المسلمين، وغير المسلمين، ملك يمين، وإماءً، واستحلت هتك أعراضهن، بل وبيعهن على رؤوس الأشهاد في أسواقٍ جديدة للنخاسة، فيها من الإذلال والامتهان لكرامة الإنسان، ومن تدني الحس الأخلاقي، ما لا مزيد عليه. فالبنية العقلية، هي البنية العقلية ذاتها، في الحالتين: حالة المعترضين على قيادة النساء السيارات، وحالة داعش، بكل خروجها عن كل ما تواضع عليه البشير في التقدير السليم للأمور. نعم، إنها هي البنية العقلية النصوصية الشكلانية الانتقائية، التي تنظر في النصوص والوقائع التاريخية، وتتخير منها ما يوافق توجهاتها، وتعمى عن مقاصد الدين العليا، وعن الحكمة وراء النصوص. كما تعمى، أيضاً، عن رؤية الواقع الموضوعي، وعن نور العقل وهديه، وعن الحكمة، التي قال، جل من قائل، أن من أوتيها، فقد أوتي خيراً كثيراً. فرغبة داعش في إطاحة أنظمة عربية قائمة، ليس هو الذي يضعها في سلة الباطل، وإنما فكرها ومسلكها المتخلِّفَيْن. وفي المقابل، منع النساء من قيادة السيارات لا يضع المدافعين عنه في سلة الدين الحق، وإنما في سلة داعش، التي لا ينفكون ينعون عليها شططها. المعترضون على قيادة النساء للسيارات، داعشيون، رضوا أم أبوا.