06 نوفمبر 2024
عن مسودة عراقية لبيان أول
بضعة شبان عراقيين غاضبين، ناقمين، "غير مسيسين"، كما وصفوا أنفسهم، فكّروا أن يكتبوا "بيانا أول"، وهم يعرفون أن كتابته محرّمة عليهم. وحدَهم سدنة "العملية السياسية"، وممثلو قوى خارجية لها حول وطول، والعساكر أيضا، من تحقّ لهم كتابة "بيان أول". هكذا تقول الأعراف السياسية في العراق، وفي الدول التي ابتليت مثلنا بشرٍّ مستطير. ولذلك لجأ هؤلاء الشبان إلى كتابة "نداء" ضمّنوه ما يمكن أن يشكل مسودةً لبيان أول: "محاكمة المتسبّبين بسقوط الموصل، إعدام المتسببين بمجزرتي سبايكر والصقلاوية، محاكة الفاسدين، توزيع عائدات النفط على المواطنين، تحسين الخدمات وتشكيل حكومة مهنية وطنية، إعدام السجناء الذين تثبت عليهم أعمال إرهابية، محاسبة الدواعش السياسيين".
هنا قامت الدنيا وقعدت، انتشر النداء بسرعة البرق، عبر مواقع التواصل، وتخطى عناوين الأخبار، حملته "بوسترات" علقت فوق جسور المشاة، وعلى أعمدة الكهرباء في ساحات بغداد وشوارعها، تظاهر عديدون في العاصمة، وفي مدن أخرى، استجابةً له، ودعما لما ورد فيه من مطالب. اللافت أكثر من ذلك أن النداء أحدث لدى "النخب" السياسية الحاكمة، وحتى المعارضة، ردّات فعل عصبيةٍ على نحو غير متوقع، عبرت عن مخاوف من أن يكون إطلاق النداء على هذا النحو المفاجئ عمليةً مخططةً من قوىً متطرّفة، وتبودلت الاتهامات بين أطراف العملية السياسية، وكل طرف يتهم الآخر بالوقوف وراء النداء المذكور، بغرض إرباك الوضع، خصوصا وأنه يجيء في مرحلةٍ صعبةٍ ومعقدةٍ، لا تحتمل مزيدا من التعقيد، هاجمه حزب الدعوة، كما أنكر البعثيون أي صلةٍ لهم به، وتبرّأ منه المدنيون وشباب "ساحة التحرير"، وسخر منه الليبراليون، وتحفّظ عليه اليساريون.
وعرف أن مطلقي النداء يمثلون الجيل الذي ولد مع نهايات الحرب العراقية – الإيرانية، وقد ربطوا نداءهم برقم 88 رمزا لعام انتهاء الحرب، ولكن توضيحا صدر من بعضهم في أن الرقم جاء في سياق تسلسل لنداءاتٍ صدرت من قبل، اتسمت بالنزعة المطلبية، وحملت نقدا صارخا للأوضاع الحاضرة. ويظل من الصعب إعطاء حكم قاطع على مبادرة غير مسبوقةٍ كهذه. ولكن علينا أن نتفهّم اللحظة التي ولد فيها النداء، وهي لحظة مأزومة وجارحة، ليس فقط على صعيد تداعيات ما بعد الانتخابات البرلمانية التي كان الجميع يأملون أنها سوف تشكل نقطة تحولٍ في مسار "العملية السياسية" التي هندسها الأميركيون، وإنما على صعيد وضع شريحة "الشباب" المزري والقاسي الذي يدفع كثيرين منهم إلى تلمّس طريقٍ يلبي طموحهم ورغباتهم، خصوصا وأن معظمهم يعاني من خيبة الأمل، وانعدام الثقة في "النخبة" التي تتحكّم في مصائر البلاد اليوم، وقد أكد مطلقو النداء على استقلاليتهم، وعدم ارتباطهم بأية جهة سياسية: "لسنا تبعية، لسنا متحزبين، لسنا سياسيين، نحن عراقيون مستقلون، ونتبرأ من كل الأحزاب والسياسيين"، كما وجهوا أنصارهم لأن يكون أي منهم قائد نفسه، حيث "لا يوجد قائد للثورة، أنتم تقودون ثورتكم".
وقد صيغ النداء بلهجة "شعاراتية" بسيطة، وتعابير مرتبكة، كما حمل نبرة تحدٍّ ورفضٍ أعادت إلى أذهان بعضهم انتفاضة الطلبة والشباب في باريس قبل خمسين عاما، وإنْ كان منتفضو باريس أكثر جذريةً في تحديد مسار انتفاضتهم، وأكثر وضوحا في طرح أهدافهم، وأيضا أكثر ثوريةً في تلمس معالم الطريق الذي يريدونه. وقد حاول منتفضو بغداد الإيحاء بحرصهم على المحافظة على النظام العام، ووعدوا بأن "يتم إخراج كل من يقوم بالاعتداء على الممتلكات العامة أو الإساءة لقوات الأمن". ولم تمنعهم هذه الاشارة من التهديد "إن رفضت المطالب، نحن مضطرون إلى إعلان ثورة مفتوحة على كل الجبهات"، وهذا ما دفع القوى الأمنية إلى الدخول في "حالة طوارئ" لمواجهة أي احتمال، لكنها حاولت أن تظهر بمظهر غير المكترث، داعيةً إلى الحصول على ترخيص رسمي، في حال القيام بالتظاهر، وسعت إلى ربط التحرك الشبابي بتنظيم داعش، بزعم أن كادرا داعشيا يقود مجموعة الشبان التي أطلقت النداء.
وبعيدا عن هذا الاحتمال أو ذاك، يظل للنداء فعل أي مسمار يدقّ في نعش العملية السياسية التي توشك على الموت، وأيضا قد يسحب المبادرة، إذا ما نمت بذرته وكبرت، من أيدي الشخصيات والحركات المعارضة التي ما انفكّت تطرح مشاريع تغيير، لكنها عجزت عن الإتيان بأي فعلٍ مؤثر، وقد يحفّزها للمراجعة والتقدّم. وفي كل الأحوال، علينا أن ننتظر فعلا أكبر وأكثر تأثيرا، وقد يطول الانتظار.
هنا قامت الدنيا وقعدت، انتشر النداء بسرعة البرق، عبر مواقع التواصل، وتخطى عناوين الأخبار، حملته "بوسترات" علقت فوق جسور المشاة، وعلى أعمدة الكهرباء في ساحات بغداد وشوارعها، تظاهر عديدون في العاصمة، وفي مدن أخرى، استجابةً له، ودعما لما ورد فيه من مطالب. اللافت أكثر من ذلك أن النداء أحدث لدى "النخب" السياسية الحاكمة، وحتى المعارضة، ردّات فعل عصبيةٍ على نحو غير متوقع، عبرت عن مخاوف من أن يكون إطلاق النداء على هذا النحو المفاجئ عمليةً مخططةً من قوىً متطرّفة، وتبودلت الاتهامات بين أطراف العملية السياسية، وكل طرف يتهم الآخر بالوقوف وراء النداء المذكور، بغرض إرباك الوضع، خصوصا وأنه يجيء في مرحلةٍ صعبةٍ ومعقدةٍ، لا تحتمل مزيدا من التعقيد، هاجمه حزب الدعوة، كما أنكر البعثيون أي صلةٍ لهم به، وتبرّأ منه المدنيون وشباب "ساحة التحرير"، وسخر منه الليبراليون، وتحفّظ عليه اليساريون.
وعرف أن مطلقي النداء يمثلون الجيل الذي ولد مع نهايات الحرب العراقية – الإيرانية، وقد ربطوا نداءهم برقم 88 رمزا لعام انتهاء الحرب، ولكن توضيحا صدر من بعضهم في أن الرقم جاء في سياق تسلسل لنداءاتٍ صدرت من قبل، اتسمت بالنزعة المطلبية، وحملت نقدا صارخا للأوضاع الحاضرة. ويظل من الصعب إعطاء حكم قاطع على مبادرة غير مسبوقةٍ كهذه. ولكن علينا أن نتفهّم اللحظة التي ولد فيها النداء، وهي لحظة مأزومة وجارحة، ليس فقط على صعيد تداعيات ما بعد الانتخابات البرلمانية التي كان الجميع يأملون أنها سوف تشكل نقطة تحولٍ في مسار "العملية السياسية" التي هندسها الأميركيون، وإنما على صعيد وضع شريحة "الشباب" المزري والقاسي الذي يدفع كثيرين منهم إلى تلمّس طريقٍ يلبي طموحهم ورغباتهم، خصوصا وأن معظمهم يعاني من خيبة الأمل، وانعدام الثقة في "النخبة" التي تتحكّم في مصائر البلاد اليوم، وقد أكد مطلقو النداء على استقلاليتهم، وعدم ارتباطهم بأية جهة سياسية: "لسنا تبعية، لسنا متحزبين، لسنا سياسيين، نحن عراقيون مستقلون، ونتبرأ من كل الأحزاب والسياسيين"، كما وجهوا أنصارهم لأن يكون أي منهم قائد نفسه، حيث "لا يوجد قائد للثورة، أنتم تقودون ثورتكم".
وقد صيغ النداء بلهجة "شعاراتية" بسيطة، وتعابير مرتبكة، كما حمل نبرة تحدٍّ ورفضٍ أعادت إلى أذهان بعضهم انتفاضة الطلبة والشباب في باريس قبل خمسين عاما، وإنْ كان منتفضو باريس أكثر جذريةً في تحديد مسار انتفاضتهم، وأكثر وضوحا في طرح أهدافهم، وأيضا أكثر ثوريةً في تلمس معالم الطريق الذي يريدونه. وقد حاول منتفضو بغداد الإيحاء بحرصهم على المحافظة على النظام العام، ووعدوا بأن "يتم إخراج كل من يقوم بالاعتداء على الممتلكات العامة أو الإساءة لقوات الأمن". ولم تمنعهم هذه الاشارة من التهديد "إن رفضت المطالب، نحن مضطرون إلى إعلان ثورة مفتوحة على كل الجبهات"، وهذا ما دفع القوى الأمنية إلى الدخول في "حالة طوارئ" لمواجهة أي احتمال، لكنها حاولت أن تظهر بمظهر غير المكترث، داعيةً إلى الحصول على ترخيص رسمي، في حال القيام بالتظاهر، وسعت إلى ربط التحرك الشبابي بتنظيم داعش، بزعم أن كادرا داعشيا يقود مجموعة الشبان التي أطلقت النداء.
وبعيدا عن هذا الاحتمال أو ذاك، يظل للنداء فعل أي مسمار يدقّ في نعش العملية السياسية التي توشك على الموت، وأيضا قد يسحب المبادرة، إذا ما نمت بذرته وكبرت، من أيدي الشخصيات والحركات المعارضة التي ما انفكّت تطرح مشاريع تغيير، لكنها عجزت عن الإتيان بأي فعلٍ مؤثر، وقد يحفّزها للمراجعة والتقدّم. وفي كل الأحوال، علينا أن ننتظر فعلا أكبر وأكثر تأثيرا، وقد يطول الانتظار.