عن مفهوم "المنطقة الآمنة"
بدايةً، يجب التمييز بين المنطقة الآمنة (Safety Zone) والمنطقة العازلة (Buffer Zone)، فالمنطقة العازلة تُنشأ بين بلدين، أو إقليمين، بهدف الفصل بين القوات المتنازعة، وعادةً ما تشغلُها قواتُ حفظ السلام الدولية. ومن الأنواع الشائعة للمناطق العازلة: المنطقة منزوعة السلاح (Demilitarized Zone)، والمناطق الحدودية بين الدول. ومن الأمثلة الواقعية عليها، المنطقة العازلة بين القسمين، اليوناني والتركي في جزيرة قبرص، والمنطقة العازلة بين سورية وإسرائيل في هضبة الجولان، أي أنّ المنطقة العازلة مفهوم عسكري، بينما الآمنة مفهوم إنساني، فتخضع لقواعد القانوني الدولي الإنساني.
في لينينغراد ودرسدن وهيروشيما وسيراييفو وصربرينيتشا، تسبّب الحصار والقصف المتواصل بمقتل مئات المدنيين، وبتهجير الآلاف. ومع ذلك، فإن المحاولات لابتكار مخطّطات ومشاريع، تهدف إلى حماية المدنيين من أهوال الحرب، لم يكتبْ لها سوى القليل من النجاح.
المناطق الآمنة (Safety Zones) مصطلح غير رسمي، لا تعريف له في القانون الدولي، يضمّ عدداً متنوّعاً من المحاولات الهادفة لحماية مناطق معينة، بإعلانها مناطق خارج نطاق الاستهداف العسكري.، ففي اتفاقيات جنيف الأربع عام 1949، وفي البروتوكولات الملحقة بها عام 1977، لم يردْ مصطلح "المناطق الآمنة"، بل وردتْ ثلاثة أنواع من المناطق: مناطق طبية (Hospital Zones)، مناطق محايدة (Neutralized Zones)، ومناطق منزوعة السلاح (Demilitarized Zones). وحسب العُرف الدولي، تتطلّب إقامة المنطقة الآمنة أولاً: الاتفاق بين الأطراف المتنازعة على إقامتها، وثانياً: إزالة الصفة العسكرية عن المنطقة، وإخضاعها للإدارة المدنية، وثالثاً: أنْ لا تحدّد الأطراف المتنازعة ترتيباتٍ للدفاع عنها، لأنّ وجود طرف عسكري جاهز للدفاع عنها، سوف يُعرّضها للدخول في الحرب مرةً أخرى.
في النزاعات التي وقعتْ بعد الحرب الباردة، أعلنَ مجلس الأمن الدولي، مع جهات دولية أخرى، وطبعاً مع الأطراف المتنازعة، عن إقامة مناطق آمنة في عدة دول، وبشكلٍ ارتجالي واعتباطي. فهذه المناطق حملتْ تسمياتٍ متنوعة: ممرات هادئة (Corridors of Tranquility)، ممرات إنسانية (Humanitarian Corridors)، مناطق محايدة (Neutral Zones)، مناطق محميّة (Protected Areas)، مناطق آمنة (Safe Areas)، وملاذات آمنة (Safe Havens). وكان الغرض من إقامتها: حماية اللاجئين، ومنع تدفق أعداد كبيرة وجديدة من اللاجئين. ومع ذلك، فإن النشاط العسكري استمرّ في هذه المناطق، بعكس التصريحات المُعلن عنها، بأنها مناطق خارج نطاق العمليات العسكرية.
بعد حرب الخليج عام 1991، قامت القوى الغربية العظمى، وبعد تشجيعها لانتفاضة الأكراد في شمال العراق، بإنشاء ملاذ آمن لتمكين 400,000 مواطن عراقي كردي من الإقامة فيه، وإعادتهم من الحدود التركية. وبعد ذلك، تولّتْ الأمم المتحدة ووكالاتها مسؤولية مساعدتهم. وفي حرب البوسنة والهرسك عام 1993، أقام مجلس الأمن الدولي ستّ مناطق آمنة، لحماية المدنيين في ستّ بلدات بوسنيّة، من هجمات القوات الصربية التي تحاصرها. لكنّ مجلس الأمن لم يحدّد بدقّـة الحدودَ الجغرافية لهذه المناطق الستّ، ولم يتعهّد بالالتزام بحمايتها. وبعد فترة قريبة، بدأ الصربُ باتهام البوسنيين بأنهم يستخدمون هذه المناطق الآمنة للتحضير لهجماتٍ عسكرية ضدّهم، وبالتالي لم يتمّ تحييد هذه المناطق عن النزاع تماماً، بالإضافة لسببٍ آخر؛ وهو أنّ البوسنيين عارضوا دخول قوات دولية لحمايتهم. وفي تموز/ يوليو عام 1995، تنبّهت الأمم المتحدة إلى خطورة الموضوع، عندما وقفتْ القوات الدولية متفرّجةً على القوات الصربية وهي تحتلّ المناطق الآمنة في صربرينيتشا وزيبا، وترتكب فيها جرائم مروّعة.
بعد وقوع ثلاثة أرباع جرائم الإبادة الجماعية في راوندا، قرّر مجلس الأمن الدولي عام 1994، إقامة مناطق إنسانية آمنة هناك، لكنْ لمْ ترسل أيّ دولة قوات عسكرية لتنفيذ القرار. وعوضاً عن ذلك، وبعد انتهاء أبشع المجازر، أعطى مجلس الأمن الدولي تفويضاً لجمهورية فرنسا، بأنْ تستخدم القوة العسكرية لإقامة منطقة آمنة في راوندا. وقد شكّلتْ هذه المنطقة ملاذاً آمناً لأبناء قبيلة الهوتو، الذين خطّطوا ونظّموا وارتكبوا مجازر الإبادة الجماعية في راوندا، ما زاد الشكوك حول جدوى فكرة المناطق الآمنة.
بشكلٍ عام، أنقذت المناطق الآمنة حياة مدنيين كثيرين. لكنّ إقامتها، ومنع النشاط العسكري داخلها، وحمايتها من الهجمات الخارجية؛ أمرٌ في غاية الصعوبة، وفي غاية الضرورة في الوقت نفسه. فالمناطق الآمنة نادراً ما شكّلتْ ملاذاً آمناً، بشكلٍ ثابت ومستمرّ، للمدنيين الهاربين من فظائع الحرب.