عن ملامح مشهد سياسي جديد في تونس
شهدت تونس صيفا سياسيا ساخنا، احتدم في أثنائه الجدل بشأن مصير الحكومة السابقة، برئاسة إلياس الفخفاخ التي حامت حوله شبهات فساد مالي وتضارب مصالح، وانتهى الأمر بتقديمه استقالتها إلى رئيس الجمهورية، وتنصيب حكومة تكنوقراط بديلة عنها برئاسة هشام المشيشي. وعرفت البلاد، في الفترة نفسها، تجاذبات حزبيّة حادّة بشأن تجديد الثقة لراشد الغنوشي في رئاسة البرلمان. وانتهت المعركة بتثبيت الرّجل في منصبه، بعد فشل خمس كتل حزبيّة في تمرير لائحة سحب الثقة منه، وعجزها عن تحصيل نصاب الأصوات الموجب لذلك. وأنتج الحدثان عمليّا تحوّلا نوعيا في المشهد السياسي، وأسهما في تشكّل ملامح جديدة بمؤسّسات الحكم الثلاث: البرلمان، والحكومة، ومؤسّسة الرئاسة.
المرجّح أنّ الرئيس قيس سعيّد كان ميّالا إلى استبقاء أعضاء الحكومة السابقة الفخفاخ بشرط تغيير رئيسها الفخفاخ
يُعدّ البرلمان مصدر السلطات، والركن المتين للديمقراطيات التمثيلية الحديثة، فمن خلاله يمارس الناخبون والمنتخبون سلطتهم، وعليه المعوّل في سنّ القوانين، ومراقبة الأداء الحكومي، وتنصيب الهيئات الدستورية وتمرير القروض والاتفاقيات الداخلية والخارجية وتسيير الشأن العام. ولعب المجلس النيابي التونسي بعد الثورة دورا حيويا في مستوى ترسيخ الانتقال الديمقراطي ومأسسته. ولكنّ الانتخابات التشريعية في 2019 أفرزت برلمانا مشتتا، تعدّدت فيه الأحزاب بتمثيليات ضئيلة أو محدودة. وصعب تجميعها في كتلٍ وازنةٍ لخلافاتها الأيديولوجية والمصلحية. واستغلّت كتلة الحزب الدستوري الحرّ، سليل النظام القديم، حالة التشتّت تلك لتربك عمل البرلمان، ولتنخرط في معركة كسر عظام مع الأحزاب الثورية عموما، ومع رئيس البرلمان خصوصا. وكانت الغاية ترذيل المجلس النيابي، وإطاحة الغنوشي، والدفع نحو حلّ البرلمان. ويبدو أنّ طيْفا معتبرا من النوّاب استشعروا مخاطر تهميش البرلمان، ومساوئ التوجّه إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، فاتّجهوا نحو استعادة الدور الريادي للمجلس النيابي في توجيه الحياة السياسية. وتجلّى ذلك في مقام أوّل من خلال توقيع أكثر من مائة نائب على لائحة سحب الثقة من حكومة الفخفاخ، وهو ما دفعه إلى تقديم استقالته إلى رئيس الجمهورية. واتّضح بذلك أنّ مجلس نوّاب الشعب هو من يزكّي الحكومات، وهو من يضمن بقاءها أو يعجّل برحيلها، بناء على تقويم موضوعي لأدائها. وفي مقام ثان، خيّر طيف معتبر من النوّاب استمرار راشد الغنوشي في رئاسة المجلس النيابي، وفشل المعترضون عليه في تمرير لائحة سحب الثقة منه. ودلّ ذلك كله على تشكّل مشهد سياسي جديد داخل البرلمان، يتكوّن أساسا من تحالف وازن، يُمثّل قوّة ضغط بارزة، يضمّ زهاء 120 نائبا، ويشمل حركة النهضة، وحزب قلب تونس، وائتلاف الكرامة، وكتلة المستقبل، ومستقلّين. في المقابل، ظهرت بوادر تكتّل مواز غير معلن، يلزم المعارضة، ويتكوّن من التيّار الديمقراطي، وحركة الشعب، والحزب الدستوري الحر، فيما تراوح الكتلة الوطنية، وتحيا تونس، وكتلة الإصلاح بين المعسكرين.
لعب المجلس النيابي بعد الثورة دورا حيويا في مستوى ترسيخ الانتقال الديمقراطي ومأسسته، لكنّ انتخابات 2019 أفرزت برلماناً مشتتاً
في المستوى الحكومي، تدخل تونس موسما سياسيا جديدا بحكومة جديدة، تسمّي نفسها غير متحزّبة، وجلّ أعضائها من الإداريين ورجال القانون والتكنوقراط، وترؤسها أوّل مرّة بعد الثورة شخصية تنحدر من منطقة الشمال الغربي (محافظة جندوبة) التي عانت التهميش طويلا، وتضمّ تركيبة الحكومة الحالية عددا معتبرا من النساء (ثماني وزيرات)، وفي ذلك تمكين للمرأة في المجال القيادي. كما أنّها خِلْو من الإسلاميين والوجوه الثورية البارزة. وبصمات الرئيس قيس سعيّد فيها واضحة، فهو مَن عيّن هشام المشيشي رئيسا للحكومة، وأعرض عن مقترحات الأحزاب في هذا الخصوص، وهو مَن وجّه، ومقرّبون منه، بتعيين أسماء محدّدة في وزارات السيادة خصوصا (الداخلية، الدفاع، العدل، الخارجية). كما أنّ اتحاد الشغل حاضر بشكل وازن في الفريق الحكومي الجديد من خلال توزير أربع شخصيات على الأقل، معروفة بخلفياتها النقابية (وزراء الشؤون الاجتماعية، التعليم العالي، التربية، النقل). وتوجُّه المشيشي نحو قيادة حكومة تكنوقراط، تخلو أو تكاد من التمثيل الحزبي، ومسنودة نسبيّا من الرئيس واتحاد الشغل يفسّر برغبته في مُطاوعة الرئيس إلى حدّ ما، وبسعيه إلى احتواء الطرف النقابي وتحقيق هدنة مطلبية/ اجتماعية، ولو إلى حين. ونأي هشام المشيشي عن الأحزاب لم يكن إلاّ خيارا ظرفيّا، مؤقّتا فهو لم يُشركها في تشكيل الحكومة هروبا من هاجس المحاصصة الحزبيّة، واسترضاء للرئيس المعروف بمنافرته الأحزاب. لكنّه ما إن أنهى اختيار أعضاء فريقه الحكومي حتّى التفت إلى الأحزاب الوازنة في البرلمان، يخطب ودّها، وينشد مساندتها تمرير حكومته. وجلّى ذلك ترتيب غداء عمل جمع بينه وبين ممثلي أربع كتل سياسية وازنة في البرلمان: راشد الغنوشي (حركة النهضة)، ونبيل القروي (قلب تونس)، وسيف الدين مخلوف (ائتلاف الكرامة)، وخميس الجيناوي (كتلة المستقبل)، قُبيْل جلسة التصويت على الحكومة. وبدا من قراءة اتجاهات التصويت أنّ معظم نوّاب تلك الكتل أيّدوا التصديق على حكومة المشيشي. في حين لم يصوّت لصالحها نوّاب حركة الشعب والتيار الديمقراطي والحزب الدستوري الحرّ. ودلّ ذلك على انقسام البرلمان قسمين، الأوّل، يمثّل الأغلبية ويشكّل حزاما سياسيا داعما للحكومة الجديدة، والثاني يمثّل كتلا حزبية وازنة معارضة لها. والثابت أنّ بقاء حكومة المشيشي من عدمه رهين قدرتها على وضع حدّ للنزيف الاقتصادي المشهود في تونس زمن كورونا، وتحقيق النقلة التنموية الشاملة المنشودة، ورهين المحافظة على تماسك الحزام النقابي والسياسي الداعم لمشروعها في إدارة البلاد وحوكمتها.
تدخل تونس موسما سياسيا جديدا بحكومة جديدة، تسمّي نفسها غير متحزّبة، وجلّ أعضائها من الإداريين ورجال القانون والتكنوقراط
أمّا في خصوص تفاعل مؤسّسة الرّئاسة مع تطوّرات السياق السياسي التونسي، فالمرجّح أنّ الرئيس قيس سعيّد كان ميّالا إلى استبقاء أعضاء حكومة إلياس الفخفاخ بشرط تغيير هذا الأخير بشخصية أخرى تحلّ محلّه. وظهر ذلك جليّا من خلال اجتماعه بقادة أحزاب الائتلاف الحاكم يوما قبل التصويت على الحكومة الجديدة، وطمأنته إيّاهم بأنّه لن يحلّ البرلمان في حال لم يمرّر النوّاب حكومة هشام المشيشي. ومن ثمّة، الظاهر أنّ خروج هذا الأخير نسبيّا من تحت جبّة رئيس الجمهورية، وانخراطه في عقد مفاوضات وتفاهمات مع الأحزاب الوازنة في البرلمان، ووعده إيّاها بإحداث تغييرات في تشكيلته الحكومية، وتطعيمها ببعض الكفاءات الحزبية على المدى القريب، حدث أغضب الرئيس قيس سعيّد الذي يريد أن يرى في الحكومة الجديدة امتدادا لنفوذه، ولا يقبل بأيّ مبادرةٍ لإحداث تغييراتٍ على تركيبتها في المدى المنظور. وذلك راجع إلى أنّه يرفض إشراك حزب قلب تونس في منظومة الحكم، بدعوى أنّ رئيسه تحوم حوله شبهات تبييض أموال، وهو غير متحمّس لإشراك حركة النهضة، لأنّ الحكم استهلكها بعد الثورة، ولأنّ رئيسها ينافسه صلاحياته في السياسة الخارجية وفي تأويل الدستور، ولا يريد لإئتلاف الكرامة أن يكون طرفا في الحكم، لأنّ قواعد هذا الإئتلاف وقياداته تُدمن نقد الرئيس، ولأنّ علاقاته باتّحاد الشغل متوتّرة. ومع أنّ قيس سعيّد يستمدّ شعبيته من نزاهته ونظافة يده، ومن تأييد مواطنين متحزّبين وغير متحزّبين له، فإنّه بدا، من خلال الاستحقاقات السياسية الأخيرة، يخرج من دائرة الحياد، والوقوف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء السياسيين. وشنّ، خلال موكب أداء الحكومة الجديدة القسم، حمْلة شعواء على الأحزاب المذكورة (قلب تونس، حركة النهضة، ائتلاف الكرامة)، ونعت قادتها ونوّابها على سبيل التلميح بالخيانة، والعمالة، وصناعة الدسائس في الغرف المظلمة. وذلك لأنّهم انتقدوا نهجه في اختيار رئيس الحكومة وإدارة سياسات تونس الخارجية. والواقع أنّ التحامل على تلك الأحزاب لن ينفع الرئيس في شيء. بل سيؤثّر سلبا على شعبيته، خصوصا أنّ جلّ مَن ناصروه خلال الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية هم من أنصار تلك الأحزاب. ويخشى مراقبون من أن يتحوّل طموح الرئيس عمليّا من البحث عن ولاية ثانية إلى التأسيس لجمهورية الرئيس.
ختاما، يمكن القول إنّ المشهد السياسي في تونس بعد الثورة يتميّز بتعدّدية دالّة، وبدينامية دائمة أصبح معها الحديث عن تأبيد الحكومات أو الرؤساء شيئا من الماضي، وغدا معها التداول السلمي على السلطة تمرينا عاديّا تمارسه النخب بإرادة الشعب وبحكْم الدستور. وأحرى بهيئات الحكم الثلاث (الرئاسة/ البرلمان/ الحكومة) في هذا الزمن الديمقراطي أن تكفّ عن تنازع الصلاحيات، وأن تنصرف إلى ممارسة مسؤولياتها بشفافية، وأن تضطلع بدورها الإداري والرقابي بنزاهة ونجاعة. ومن المفيد، بدل التنازع، بلورة مشروع حكم توافقي، تضامني، متماسك، يروم تثبيت الدمقرطة، وتحقيق الانتقال الاقتصادي، وتوفير ما ينفع الناس.