28 أكتوبر 2024
غزة ... أهداف عاجلة وآفاق آجلة
حسناً فعلت حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، حين حسمت حالة التردد والترقب، وانتظار ما ستؤول إليه تطورات الإقليم، لكي تقرر تجاوز حالة الجمود والمراوحة في المكان، من دون أدنى فعل ثوري، والردّ على تغول الاستيطان وسياسة القمع والاعتقال ونسف البيوت والحصار وتهويد الأرض والبشر. إذ أعادت الأمور إلى نصابها، حين قابلت سياسة الردع بمثلها، وأدركت أن إدامة الاشتباك مع العدو يوحّد شعبنا، ويقوي جبهتنا، وينفض عنها الوهن الذي أصابها بفعل الانقسام وسياسات التنسيق الأمني، والمفاوضات العبثية، وانعدام البدائل والرؤى، وانتظار ما لا يأتي. ذلك أن فلسطين هي مركز الدائرة وبوصلة المناضلين التي لا تخطئ، بداية التغيير لا تكون إلا منها، ولأجلها، ونحوها. يسقط الشهداء، وتتواصل المسيرة عبر الأجيال، وتبقى رايتها خفاقة.
وسيّان سُمّيت هذه المعركة باسم معركة العاشر من رمضان، في إشارة إلى حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973، أو البنيان المرصوص، دلالةً على وحدة الشعب الفلسطيني بكل مناطقه في غزة والضفة وفلسطين الداخل والشتات، ووحدة كل قواه الحية على أرض المعركة، فإنه ينبغي القول إن ثمة آفاقاً كبيرة آجلة، تفتح لها هذه المعركة المجيدة الأبواب، وتهيء لها الدروب، كما أن ثمة أهدافاً عاجلة، أزعم أن بعضها تحقق بالفعل، منذ انطلاق أول صاروخ، وفي اللحظة ذاتها التي خرجت فيها أول مسيرة، في أي جزءٍ من فلسطين، معلنةً، مرة أخرى، فشل محاولات تقسيم الشعب، وإعادة وحدته ووحدة نضاله وأهدافه وأمانيه وتطلعاته، لتبشرنا بأفقٍ قادم تعود فيه القضية الفلسطينية إلى جذورها التي شوهتها اتفاقيات السلام المزعوم، ويعود الشعب الفلسطيني موحداً ما بين الداخل والشتات، يحمل القضية ذاتها والهدف نفسه، تحرير فلسطين.
النصر صبر ساعة، وكل البوادر تشير إلى اقترابه. العدو مرتبك تماماً. وعلى الرغم من سياسة نسف البيوت من الجو التي يتبعها في غزة، إلا أنه يدرك تماماً فشله الاستراتيجي منذ بدايات المعركة. في السابق، تشدق المحللون العسكريون لديه بأنه، وقبل أي حرب في غزة وجنوب لبنان، وفي الأربع وعشرين ساعة الأولى، سيكون سلاح الجو قد دمر ثلاثة أرباع المخزون الصاروخي لدى المقاومة وقواعد إطلاقها، ضامناً بذلك حماية جبهته الداخلية. ما شاهدناه لا يتعدى تدميراً للبيوت والمؤسسات، في حين فاجأته المقاومة بتجاوز القدس وتل أبيب إلى ما بعدها، إلى الشمال وحيفا والخضيرة. وهكذا بات الجنوب والوسط والشمال تحت نيران المقاومة، في فشل ذريع لمعلومات العدو الاستخبارية. صحيح أن قوة النيران لدى المقاومة محدودة قياساً بحجم غاراته الجوية، لكن هذه الضربات أثبتت وجود قوة ردع فلسطينيةٍ، لا يستهان بها، قادرة على وقف الحياة العامة وعجلة الإنتاج في كل فلسطين المحتلة، بل جعل أكثر من خمسة ملايين صهيوني، يبيتون في الملاجئ، أو قربها.
قد يستطيع العدو ارتكاب اغتيالاتٍ في خضم هذه المعركة، لكن الطائرة تقصف وتدمر ولا تحتل. خيار الهجوم البري يزداد مع تصاعد في استدعاء جنود الاحتياط، لكن هذا يشكل الخيار الأصعب والأقسى على العدو، ذلك أن زيادة اعتماد الجيش الصهيوني على التقنيات والأسلحة الحديثة جعلته يهمل التركيز على العنصر البشري. وساهمت الهبات الفلسطينية السابقة، واضطرار الجيش للانتشار في المناطق المحتلة في التقليل من كفاءته العسكرية. ظهر هذا واضحاً للعيان في اجتياحات لبنان وغزة السابقة. وعقدت ندوات، وأجريت مناورات للتغلب على نقطة الضعف تلك. الآن، هو أمام اختبارٍ جديد. أغلب الظن أنه سيلجأ إلى الاندفاع في المناطق الخالية من السكان، قرب الجدار الحدودي، لكن ذلك لن يعطيه أي ميزة إضافية، بل سيجعله أكثر عرضةً للنيران والهجمات الفلسطينية. أما إعادة احتلال غزة، فإنها مغامرة كبيرة، يراهن بها رئيس حكومة العدو، بنيامين نتانياهو، وكبار القادة في الكيان على مستقبلهم، وإذا حدثت فهي معركة كبيرة وطويلة، ستغير معادلات قائمة كثيرة، وتمتد تأثيراتها من فلسطين والكيان الصهيوني إلى المنطقة برمتها.
النصر قادم لا شك فيه، ولكن حجمه لا يتوقف، فقط، على استمرار المواجهة في غزة، وإدامة الاشتباك مع العدو أطول فترة ممكنة فحسب. الصاروخ مهم، والصمود مهم، وقدرة الردع التي تحققت مهمة، ولكن، بالأهمية نفسها، يأتي استمرار الحراك الجماهيري في الضفة الغربية ومناطق الداخل الفلسطيني، بل وتصعيد هذا الحراك باتجاه مواجهة العدو وحواجزه ومستوطنيه، وإدامة الاشتباك معه في كل نقطة من الأرض الفلسطينية. إنها معركة لا تقل أهمية عن معركة غزة، وهي جزء أساسي ومكمل لها. وهي المعركة الكفيلة بتشتيت جهد العدو وتوزيع قواه. وهي المعركة القادرة على إسقاط التنسيق الأمني عملياً، وعلى أرض المواجهة. وهو هدف آخر عاجل سيتحقق حتماً مع استمرار المعركة، فاتحاً الطريق إلى آفاق استمرار الانتفاضة، وتحديد ملامحها واتجاهاتها في كل فلسطين.
استمرار المعركة والصمود فيها، واتساعها لتشمل كل فلسطين، سيؤديان، حتماً إلى تغيير في الواقع العربي المتلبد، وإلى هزة في ضمير الشعب المصري الذي قدم خيرة أبنائه في سبيل القضية الفلسطينية، مما سيؤدي إلى رفع الحصار عن غزة، وإلى فتح معبر رفح بصورة نهائية، كمعبر عربي، بعيداً عن المراقبين الأوروبيين والرقابة الصهيونية. إنه هدف آخر قابل للتحقيق، تماماً كهدف إطلاق سراح المعتقلين من صفقة شاليط، وهدف تقديم إسرائيل إلى محكمة الجنايات الدولية، وهدف إعادة الزخم العربي باتجاه النضال الفلسطيني.
في الحرب الدائرة حالياً، نحن قادرون على تحقيق هذه الأهداف، في أثناء الحرب ذاتها، وكنتيجة حتمية لها. فلسطين ما بعد البنيان المرصوص هي غير ما كانت قبله. وثمة آفاق استراتيجية، يجب أن ترتسم فوراً، وفي طليعتها استمرار المواجهة والانتفاضة، وإعادة توحيد مسار القضية الفلسطينية في الداخل والضفة وغزة والشتات، بإنهاء حقبة المفاوضات، والعودة إلى مجد المقاومة.