06 يوليو 2017
غزة.. المقاومة بعد 10 أعوام على انسحاب إسرائيل
نذكر، في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات، كيف خرج آخر جندي إسرائيلي من قطاع غزة، في سبتمبر/أيلول 2005، بعد أن أعلن إرييل شارون، رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه، أن مستوطنة نتساريم وسط غزة تساوي في مكانتها تل أبيب، لكن الانسحاب تم وحصل، وخرجت إسرائيل من هذه البقعة الجغرافية الساحلية، بعد احتلال مباشر دام قرابة أربعة عقود، تحت ضغط المقاومة المسلحة في غزة.
في الوقت نفسه، لم يكن الانسحاب الإسرائيلي من غزة نهاية لمعاناة الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، على العكس، منذ اللحظة الأولى للانسحاب، بدأت التحذيرات تصدر من الأوساط العسكرية من تزايد المخاطر الأمنية على الحدود خلف خط الهدنة مع غزة، بعد أن أصبحت المستوطنات داخل الأراضي المحتلة عام 1948 مكشوفة أمام صواريخ المقاومة المحلية الصنع، بل وباتت في مرماها.
تصاعد المقاومة
أثبتت الحروب الإسرائيلية التالية، أن مستوطنات غلاف غزة أصبحت في دائرة الخطر من "الأنفاق المفخخة" التي ابتكرتها فصائل المقاومة، وهو ما قد تلجأ إليه في حال تنفيذ اعتداءات إسرائيلية ضد الفلسطينيين، بجانب اتساع مدى الصواريخ، عقب تنفيذ خطة الانسحاب، وإتاحة مناطق متقدمة تستخدم لإطلاقها، لتطاول المستوطنات المحاذية، بعد أن تصعب وصول الصواريخ إليها. وعليه، ستظل الصواريخ عامل تهديد ورعب لهذه المستوطنات.
منذ اليوم الأول للإخلاء الإسرائيلي من غزة، بدأت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تدرس تزويد آلاف منازل المستوطنين بوسائل حماية من هذه الصواريخ، ووضع ملاجئ بمواصلات خاصة، في وقت يواصل فيه الفلسطينيون تطوير صواريخهم، ما دعا وزارة الدفاع إلى أن ترصد 50 مليون دولار، لحماية المستوطنات والتجمعات السكانية المحيطة بقطاع غزة وتحصينها من الصواريخ والأنفاق التي يستخدمها الفلسطينيون، لتنفيذ عمليات فدائية نوعية، تحسباً لعمليات كهذه، وهو ما شهدته الحرب على غزة صيف 2014.
لم تحصل خطة الانسحاب من غزة على إجماع إسرائيلي، كما هو الحال في قرارات عسكرية وأمنية كثيرة. ولذلك، خرجت أصوات عسكرية حاولت التحذير من مخاطر الانسحاب من غزة، بحيث بات الحديث يدور عن تهديد مقلق وخطير، يستدعي انتشاراً دفاعياً مناسباً في المستوطنات المجاورة لغزة، واعتبارها بلدات في خط المواجهة، وباتت تشكل الخاصرة الجنوبية الضعيفة لإسرائيل في حروبها ضد غزة.
بعد مرور عشر سنوات على الانسحاب الإسرائيلي من غزة، توضح معطيات الحال "اتساع مؤشّر الخوف" بين الإسرائيليين، جنوداً ومستوطنين، لأن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة كان أحادي الجانب، فلم يتم إجراء تنسيق إسرائيلي مع أي طرف فلسطيني، باستثناء التنسيق الميداني المتعلق بإجراء ترتيبات فنية وأمنية ميدانية ليس أكثر، بعيداً عن التنسيق المقصود بصلب خطة الفصل والمواعيد المقررة.
أضف إلى ذلك، أن الانسحاب الإسرائيلي من غزة أوجد تغيراً كلياً لساحة المقاومة فيها، فبعد أن كانت الأهداف الإسرائيلية العسكرية والاستيطانية على مرمى النظر، اختلف الوضع العسكري بعد الانسحاب، لتصبح تلك الأهداف بحاجة لإدارة جديدة تتعلق بآليات المقاومة وتقنياتها ومراميها السياسية بالأساس، في حين وجدت التهديدات العسكرية التي أطلقتها الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية فور الخروج من غزة، في حال تجدد أعمال المقاومة، طريقها إلى التنفيذ، عبر شن إسرائيل عشرات من العمليات العسكرية في قطاع غزة، وعلى حدودها.
تحصينات إسرائيلية
أظهرت المقاومة في غزة عشية الانسحاب الإسرائيلي تكيّفاً واضحاً مع الوضع الجديد، باستخدام تكتيكات عسكرية وأمنية، في لجوئها إلى استخدام أنماط جديدة من العبوات الجانبية، بأساليب تمويه مناسبة بما يتناسب مع طبيعة الأرض واختلافها عن طبيعة الأرض الرملية، واتباع آليات جديدة لصنع سلاح المقاومة وتدفقه بعد الانسحاب من غزة، لضمان تقوية نفسها عبر المحافظة على مصادر التمويل المالي لشراء السلاح، سواء من المتبرعين المحليين أو الخارجيين، والعمل على توفير عدد لا بأس به من خطوط توريد السلاح لقطاع غزة، والربط
مع أكثر من جهة لتأمين وصوله، حتى إذا ضرب خط من الخطوط يبقى الآخر مستمراً.
كما نجحت المقاومة في غزة في العمل على تطوير التصنيع المتعدد الأوجه للسلاح، في ظروف غير متوفرة، مع وجود الاحتلال، وبقدرة أعلى على إدخال المواد الخام الضرورية للتصنيع، وتعدد منافذ استيراده، والتوجه إلى تعليم المقاتلين وتدريبهم على استخدام السلاح، وكيفية الحفاظ عليه، وتخزينه إن وجد، بجانب زيادة التجارب، حتى تصل الدرجة المطلوبة من السلاح والعبوات والقذائف والصواريخ، وتطوير الصواريخ، لأنها السلاح الاستراتيجي في الفترة المقبلة، فضلاً عن زيادة المخزون الاستراتيجي من الذخيرة وتنويعه بأنواعها كافة.
أثبتت مناوشات ومواجهات عسكرية كثيرة بين الجيش الإسرائيلي وقوى المقاومة منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة، قدرة المقاومة على استثمار الوسائل السابقة، ما جعل الجيش الإسرائيلي يتراجع، في حالات كثيرة، عن التقدم في قلب غزة، بسبب امتلاكها وسائل قتالية وتكتيكات عسكرية محترفة كثيرة، على الرغم من مبادرة الجيش الإسرائيلي، في المقابل، إلى اعتماد سياسة الضغط المستمر على قيادات وخلايا المقاومة، السياسية والعسكرية، خصوصاً عبر الاغتيال والتصفية المباشرة.
بعد تنفيذ الانسحاب الإسرائيلي القسري من داخل غزة، وإخلاء جميع المستوطنات والمواقع العسكرية، بدا واضحاً أن ساحة المعركة أمام قوى المقاومة تغيّرت بصورة جوهرية، لاسيما في ضوء عدد العمليات الفدائية وحجمها ونوعيتها ضد هذه الأهداف العسكرية والاستيطانية على حد سواء، وفي ظل غياب هذه الأهداف، بصورة كلية، بفعل تنفيذ خطة الفصل، أصبحت الخيارات العسكرية من الناحية الميدانية ضيقة نسبياً، ما حتم عليها البحث، مبكراً، في خيارات أخرى وبدائل مفترضة، على الرغم من إقرار قوى المقاومة بصعوبتها في غزة.
وضع الانسحاب الإسرائيلي من غزة قيادة المقاومة، في فترة مبكرة، أمام تحديات جادة غير مسبوقة، لأن فريقاً كبيراً من صناع قرار المقاومة الفلسطينية رأوا أن المقاومة لم توجد لتحرير غزة فقط، فإذا انسحب الاحتلال منها، فهذا لا يعني انتهاء المقاومة، واسترداد كامل الحقوق، فالمعركة ما زالت طويلة، والمعركة الأشرس والأشد ستكون على الضفة الغربية، وفي قلبها القدس، ما يجعل بالضرورة سلاح المقاومة الرقم الصعب، إن لم يكن الأصعب في هذه المرحلة. ولذلك، لم تدع قوى المقاومة أي مجال للتكهنات والتخمينات حول مستقبل عملياتها بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة، فقد أكدت، قبله وبعده، على ضرورة الاستمرار في المقاومة المسلحة.
ومع ذلك، أشارت الأحداث المتلاحقة منذ عام 2005 إلى أن اقتصار المقاومة على الصواريخ والقذائف بعد الانسحاب الإسرائيلي، أوقعها في إشكاليتين كبيرتين، تمثلتا في عدم قدرتها على مواجهة المستجدات الميدانية الجديدة في القطاع. وبالتالي، عجزها عن التكيف مع الوقائع المستجدة على الأرض، وقد كان في وسعها البحث في البدائل المتاحة منذ زمن، علماً أنها سجلت في سنوات الانتفاضة قدرة خلاقة في ابتكار أساليب قتالية عديدة على تجاوز الإجراءات الإسرائيلية، خصوصاً ما تمثل في حرب الأنفاق.
وهناك إشكالية ثانية أمام المقاومة، تمثلت في أن قوات الاحتلال أعدت العدة لمواجهة استمرارها في إطلاقها الصواريخ، بتوسيع المساحة الجغرافية المكشوفة أمام آلياتها العسكرية وطائراتها، وبالتالي، قيامها بعملية "حلاقة" للأراضي الزراعية، والإعلان ضمنياً عن مساحات واسعة من شمال غزة وشرقها مناطق عسكرية مغلقة.
سديروت مقابل غزة
إن قراءة موضوعية لتجربة المقاومة بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة تشير إلى أن خيار المقاومة فرض نفسه على الفلسطينيين، بعد اتفاقية أوسلو فرضاً، بسبب فشل البديل التفاوضي في تحقيق الحد الأدنى من الآمال والأحلام الفلسطينية من جهة، وبسبب ضعف الإرادة العربية والدولية اللازمة لتطوير الفعل التفاوضي فيما يتعلق بقضايا الحل النهائي، على نحو يستجيب للمصالح الفلسطينية في حدها الأدنى من جهة أخرى، وبسبب غياب الإرادة الإسرائيلية لتوفير حلول معقولة لقضايا الحل النهائي وتطوير مرحلة الحل المؤقت باتجاه إيجابي، يشجع على عملية التفاوض من جهة ثالثة.
أدرك الإسرائيليون خطأ الانسحاب من غزة، ولو متأخرين، منهم موشيه يعلون، وزير الدفاع الحالي ورئيس هيئة الأركان السابق، حين قال، إنه بعد أعوام من الانسحاب من غزة لم تهنأ إسرائيل بالراحة، على العكس، حلت في المشهد القائم صورة جديدة، هي رعب الجنود الإسرائيليين الجرحى والقتلى، إزاء رعب المصابين الفلسطينيين، وخوف سديروت مقابل خوف بيت حانون، ونار صاروخ القسام إزاء نار المدفعية، وحلقة مفرغة من العنف الذي يزيد العنف، والقتل الذي يعاظم القتل، وإحساس متزايد بأن وحل غزة حل محله وحل حدود غزة، وحدود الهدوء أصبحت حدود عدم سلام، وغياب الأمن! وبالتالي، لا تعني النظرة الحقيقية لفكرة الانفصال سوى أنه هرب تحت النار، وخضوع وتشجيع للعنف.
بعد عشرة أعوام على الانسحاب الإسرائيلي من غزة، ترى قطاعات عريضة من الإسرائيليين
أن الخطة فشلت، لأنها لم تنبع من تحليل استراتيجي عميق، بل من أزمة سياسية وشخصية لشارون، في ظل تعاظم مشكلاته الأمنية، ولأن من دبروها وقادوها لم يكونوا ذوي خلفية استراتيجية وأمنية وسياسية وتاريخية. كانوا مستشارين فارغين، ذوي ألاعيب، وما فعله هؤلاء هو إدخال إسرائيل في فقاعة وهمية مفصولة عن الواقع، بحيلة إعلامية ضخمة، فقأت، الآن، حيال أعينهم.
يعدد الإسرائيليون الأخطاء التي أسفر عنها الانسحاب من غزة، منها: ضياع جميع الأملاك التي جمعتها إسرائيل في سنوات الحرب، والإفضاء إلى فوز حماس في الانتخابات، وغذّى النضال الفلسطيني سنوات طويلة، ونشوء إحساس في المنطقة بأنه يمكن الانتصار على إسرائيل، لأنها في الحقيقة مجتمع خيوط عنكبوت، والانسحاب من غزة الذي صوره الفلسطينيون هروباً تحت نار المقاومة، لم يضر الإسرائيليين إضراراً شديداً فقط، بل، أيضاً، بالاستراتيجية الأميركية الإقليمية لمحاربة "الإرهاب"، ونشأ إحساس عند الإسلاميين أنهم كما هزموا إسرائيل في غزة، سيهزمونها في الضفة الغربية، وفي تل أبيب أيضاً.
أعاد انسحاب إسرائيل من غزة سيناريو جنوب لبنان، فقد دخل غزة سلاح كثير، ومواد متفجرة ذات نوعية عالية، وصواريخ كاتيوشا، توجد صواريخ مضادة للطائرات والدبابات، وأوجد الانسحاب أمام الإسرائيليين مشكلة فقدان الردع، ويمكن أن تدفع في المستقبل ثمنا باهظاً عنها، لأن تهديداتم أنهم إذا أطلق الفلسطينيون صواريخ القسام بعد الانسحاب، سيردون بكامل القوة، فتّتت ردعهم، وأثرت تأثيراً سيئاً على مكانتهم في المنطقة.
وعندما تكون الخطوات انسحاباً وانسحاباً، فذلك يوحي بالضعف، ومن يوحي بالضعف، في الشرق الأوسط، فهو كحيوان ضعيف في الطبيعة: ينقضون عليه، لا يتركونه، بل ينقضون عليه! ولذلك، رأى الإسرائيليون أن الانسحاب من غزة لعب لمصلحة حماس التي استعملته دليلاً على أنها، هي فقط تستطيع تحرير المناطق، وكان من نتائج الانسحاب نشوء استنتاج عند فلسطينيين كثيرين، أن اليهود يفهمون القوة فقط، وأن استعمال القوة فقط ومزيداً من القوة سيخرج إسرائيل من الضفة الغربية على الصورة نفسها التي خرجت عليها من غزة.
في الوقت نفسه، لم يكن الانسحاب الإسرائيلي من غزة نهاية لمعاناة الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، على العكس، منذ اللحظة الأولى للانسحاب، بدأت التحذيرات تصدر من الأوساط العسكرية من تزايد المخاطر الأمنية على الحدود خلف خط الهدنة مع غزة، بعد أن أصبحت المستوطنات داخل الأراضي المحتلة عام 1948 مكشوفة أمام صواريخ المقاومة المحلية الصنع، بل وباتت في مرماها.
تصاعد المقاومة
أثبتت الحروب الإسرائيلية التالية، أن مستوطنات غلاف غزة أصبحت في دائرة الخطر من "الأنفاق المفخخة" التي ابتكرتها فصائل المقاومة، وهو ما قد تلجأ إليه في حال تنفيذ اعتداءات إسرائيلية ضد الفلسطينيين، بجانب اتساع مدى الصواريخ، عقب تنفيذ خطة الانسحاب، وإتاحة مناطق متقدمة تستخدم لإطلاقها، لتطاول المستوطنات المحاذية، بعد أن تصعب وصول الصواريخ إليها. وعليه، ستظل الصواريخ عامل تهديد ورعب لهذه المستوطنات.
منذ اليوم الأول للإخلاء الإسرائيلي من غزة، بدأت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تدرس تزويد آلاف منازل المستوطنين بوسائل حماية من هذه الصواريخ، ووضع ملاجئ بمواصلات خاصة، في وقت يواصل فيه الفلسطينيون تطوير صواريخهم، ما دعا وزارة الدفاع إلى أن ترصد 50 مليون دولار، لحماية المستوطنات والتجمعات السكانية المحيطة بقطاع غزة وتحصينها من الصواريخ والأنفاق التي يستخدمها الفلسطينيون، لتنفيذ عمليات فدائية نوعية، تحسباً لعمليات كهذه، وهو ما شهدته الحرب على غزة صيف 2014.
لم تحصل خطة الانسحاب من غزة على إجماع إسرائيلي، كما هو الحال في قرارات عسكرية وأمنية كثيرة. ولذلك، خرجت أصوات عسكرية حاولت التحذير من مخاطر الانسحاب من غزة، بحيث بات الحديث يدور عن تهديد مقلق وخطير، يستدعي انتشاراً دفاعياً مناسباً في المستوطنات المجاورة لغزة، واعتبارها بلدات في خط المواجهة، وباتت تشكل الخاصرة الجنوبية الضعيفة لإسرائيل في حروبها ضد غزة.
بعد مرور عشر سنوات على الانسحاب الإسرائيلي من غزة، توضح معطيات الحال "اتساع مؤشّر الخوف" بين الإسرائيليين، جنوداً ومستوطنين، لأن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة كان أحادي الجانب، فلم يتم إجراء تنسيق إسرائيلي مع أي طرف فلسطيني، باستثناء التنسيق الميداني المتعلق بإجراء ترتيبات فنية وأمنية ميدانية ليس أكثر، بعيداً عن التنسيق المقصود بصلب خطة الفصل والمواعيد المقررة.
أضف إلى ذلك، أن الانسحاب الإسرائيلي من غزة أوجد تغيراً كلياً لساحة المقاومة فيها، فبعد أن كانت الأهداف الإسرائيلية العسكرية والاستيطانية على مرمى النظر، اختلف الوضع العسكري بعد الانسحاب، لتصبح تلك الأهداف بحاجة لإدارة جديدة تتعلق بآليات المقاومة وتقنياتها ومراميها السياسية بالأساس، في حين وجدت التهديدات العسكرية التي أطلقتها الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية فور الخروج من غزة، في حال تجدد أعمال المقاومة، طريقها إلى التنفيذ، عبر شن إسرائيل عشرات من العمليات العسكرية في قطاع غزة، وعلى حدودها.
تحصينات إسرائيلية
أظهرت المقاومة في غزة عشية الانسحاب الإسرائيلي تكيّفاً واضحاً مع الوضع الجديد، باستخدام تكتيكات عسكرية وأمنية، في لجوئها إلى استخدام أنماط جديدة من العبوات الجانبية، بأساليب تمويه مناسبة بما يتناسب مع طبيعة الأرض واختلافها عن طبيعة الأرض الرملية، واتباع آليات جديدة لصنع سلاح المقاومة وتدفقه بعد الانسحاب من غزة، لضمان تقوية نفسها عبر المحافظة على مصادر التمويل المالي لشراء السلاح، سواء من المتبرعين المحليين أو الخارجيين، والعمل على توفير عدد لا بأس به من خطوط توريد السلاح لقطاع غزة، والربط
كما نجحت المقاومة في غزة في العمل على تطوير التصنيع المتعدد الأوجه للسلاح، في ظروف غير متوفرة، مع وجود الاحتلال، وبقدرة أعلى على إدخال المواد الخام الضرورية للتصنيع، وتعدد منافذ استيراده، والتوجه إلى تعليم المقاتلين وتدريبهم على استخدام السلاح، وكيفية الحفاظ عليه، وتخزينه إن وجد، بجانب زيادة التجارب، حتى تصل الدرجة المطلوبة من السلاح والعبوات والقذائف والصواريخ، وتطوير الصواريخ، لأنها السلاح الاستراتيجي في الفترة المقبلة، فضلاً عن زيادة المخزون الاستراتيجي من الذخيرة وتنويعه بأنواعها كافة.
أثبتت مناوشات ومواجهات عسكرية كثيرة بين الجيش الإسرائيلي وقوى المقاومة منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة، قدرة المقاومة على استثمار الوسائل السابقة، ما جعل الجيش الإسرائيلي يتراجع، في حالات كثيرة، عن التقدم في قلب غزة، بسبب امتلاكها وسائل قتالية وتكتيكات عسكرية محترفة كثيرة، على الرغم من مبادرة الجيش الإسرائيلي، في المقابل، إلى اعتماد سياسة الضغط المستمر على قيادات وخلايا المقاومة، السياسية والعسكرية، خصوصاً عبر الاغتيال والتصفية المباشرة.
بعد تنفيذ الانسحاب الإسرائيلي القسري من داخل غزة، وإخلاء جميع المستوطنات والمواقع العسكرية، بدا واضحاً أن ساحة المعركة أمام قوى المقاومة تغيّرت بصورة جوهرية، لاسيما في ضوء عدد العمليات الفدائية وحجمها ونوعيتها ضد هذه الأهداف العسكرية والاستيطانية على حد سواء، وفي ظل غياب هذه الأهداف، بصورة كلية، بفعل تنفيذ خطة الفصل، أصبحت الخيارات العسكرية من الناحية الميدانية ضيقة نسبياً، ما حتم عليها البحث، مبكراً، في خيارات أخرى وبدائل مفترضة، على الرغم من إقرار قوى المقاومة بصعوبتها في غزة.
وضع الانسحاب الإسرائيلي من غزة قيادة المقاومة، في فترة مبكرة، أمام تحديات جادة غير مسبوقة، لأن فريقاً كبيراً من صناع قرار المقاومة الفلسطينية رأوا أن المقاومة لم توجد لتحرير غزة فقط، فإذا انسحب الاحتلال منها، فهذا لا يعني انتهاء المقاومة، واسترداد كامل الحقوق، فالمعركة ما زالت طويلة، والمعركة الأشرس والأشد ستكون على الضفة الغربية، وفي قلبها القدس، ما يجعل بالضرورة سلاح المقاومة الرقم الصعب، إن لم يكن الأصعب في هذه المرحلة. ولذلك، لم تدع قوى المقاومة أي مجال للتكهنات والتخمينات حول مستقبل عملياتها بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة، فقد أكدت، قبله وبعده، على ضرورة الاستمرار في المقاومة المسلحة.
ومع ذلك، أشارت الأحداث المتلاحقة منذ عام 2005 إلى أن اقتصار المقاومة على الصواريخ والقذائف بعد الانسحاب الإسرائيلي، أوقعها في إشكاليتين كبيرتين، تمثلتا في عدم قدرتها على مواجهة المستجدات الميدانية الجديدة في القطاع. وبالتالي، عجزها عن التكيف مع الوقائع المستجدة على الأرض، وقد كان في وسعها البحث في البدائل المتاحة منذ زمن، علماً أنها سجلت في سنوات الانتفاضة قدرة خلاقة في ابتكار أساليب قتالية عديدة على تجاوز الإجراءات الإسرائيلية، خصوصاً ما تمثل في حرب الأنفاق.
وهناك إشكالية ثانية أمام المقاومة، تمثلت في أن قوات الاحتلال أعدت العدة لمواجهة استمرارها في إطلاقها الصواريخ، بتوسيع المساحة الجغرافية المكشوفة أمام آلياتها العسكرية وطائراتها، وبالتالي، قيامها بعملية "حلاقة" للأراضي الزراعية، والإعلان ضمنياً عن مساحات واسعة من شمال غزة وشرقها مناطق عسكرية مغلقة.
سديروت مقابل غزة
إن قراءة موضوعية لتجربة المقاومة بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة تشير إلى أن خيار المقاومة فرض نفسه على الفلسطينيين، بعد اتفاقية أوسلو فرضاً، بسبب فشل البديل التفاوضي في تحقيق الحد الأدنى من الآمال والأحلام الفلسطينية من جهة، وبسبب ضعف الإرادة العربية والدولية اللازمة لتطوير الفعل التفاوضي فيما يتعلق بقضايا الحل النهائي، على نحو يستجيب للمصالح الفلسطينية في حدها الأدنى من جهة أخرى، وبسبب غياب الإرادة الإسرائيلية لتوفير حلول معقولة لقضايا الحل النهائي وتطوير مرحلة الحل المؤقت باتجاه إيجابي، يشجع على عملية التفاوض من جهة ثالثة.
أدرك الإسرائيليون خطأ الانسحاب من غزة، ولو متأخرين، منهم موشيه يعلون، وزير الدفاع الحالي ورئيس هيئة الأركان السابق، حين قال، إنه بعد أعوام من الانسحاب من غزة لم تهنأ إسرائيل بالراحة، على العكس، حلت في المشهد القائم صورة جديدة، هي رعب الجنود الإسرائيليين الجرحى والقتلى، إزاء رعب المصابين الفلسطينيين، وخوف سديروت مقابل خوف بيت حانون، ونار صاروخ القسام إزاء نار المدفعية، وحلقة مفرغة من العنف الذي يزيد العنف، والقتل الذي يعاظم القتل، وإحساس متزايد بأن وحل غزة حل محله وحل حدود غزة، وحدود الهدوء أصبحت حدود عدم سلام، وغياب الأمن! وبالتالي، لا تعني النظرة الحقيقية لفكرة الانفصال سوى أنه هرب تحت النار، وخضوع وتشجيع للعنف.
بعد عشرة أعوام على الانسحاب الإسرائيلي من غزة، ترى قطاعات عريضة من الإسرائيليين
يعدد الإسرائيليون الأخطاء التي أسفر عنها الانسحاب من غزة، منها: ضياع جميع الأملاك التي جمعتها إسرائيل في سنوات الحرب، والإفضاء إلى فوز حماس في الانتخابات، وغذّى النضال الفلسطيني سنوات طويلة، ونشوء إحساس في المنطقة بأنه يمكن الانتصار على إسرائيل، لأنها في الحقيقة مجتمع خيوط عنكبوت، والانسحاب من غزة الذي صوره الفلسطينيون هروباً تحت نار المقاومة، لم يضر الإسرائيليين إضراراً شديداً فقط، بل، أيضاً، بالاستراتيجية الأميركية الإقليمية لمحاربة "الإرهاب"، ونشأ إحساس عند الإسلاميين أنهم كما هزموا إسرائيل في غزة، سيهزمونها في الضفة الغربية، وفي تل أبيب أيضاً.
أعاد انسحاب إسرائيل من غزة سيناريو جنوب لبنان، فقد دخل غزة سلاح كثير، ومواد متفجرة ذات نوعية عالية، وصواريخ كاتيوشا، توجد صواريخ مضادة للطائرات والدبابات، وأوجد الانسحاب أمام الإسرائيليين مشكلة فقدان الردع، ويمكن أن تدفع في المستقبل ثمنا باهظاً عنها، لأن تهديداتم أنهم إذا أطلق الفلسطينيون صواريخ القسام بعد الانسحاب، سيردون بكامل القوة، فتّتت ردعهم، وأثرت تأثيراً سيئاً على مكانتهم في المنطقة.
وعندما تكون الخطوات انسحاباً وانسحاباً، فذلك يوحي بالضعف، ومن يوحي بالضعف، في الشرق الأوسط، فهو كحيوان ضعيف في الطبيعة: ينقضون عليه، لا يتركونه، بل ينقضون عليه! ولذلك، رأى الإسرائيليون أن الانسحاب من غزة لعب لمصلحة حماس التي استعملته دليلاً على أنها، هي فقط تستطيع تحرير المناطق، وكان من نتائج الانسحاب نشوء استنتاج عند فلسطينيين كثيرين، أن اليهود يفهمون القوة فقط، وأن استعمال القوة فقط ومزيداً من القوة سيخرج إسرائيل من الضفة الغربية على الصورة نفسها التي خرجت عليها من غزة.