19 نوفمبر 2024
غزة حارسة الشعلة المقدسة
أعادت مسيرات العودة المتواصلة، كل يوم جمعة، على حدود قطاع غزة منذ يوم الأرض (30/3)، وما انجلى عنه المشهد الملحمي عشية ذكرى يوم النكبة (15/ 5)، إلى الأذهان المصابة بضعف الذاكرة، حقيقة أن غزة هي رافعة النضال الوطني الفلسطيني من دون منازع، على مدى السبعين عاماً الماضية، وصاحبة السبق في إطلاق أول أشكال الكفاح المسلح ضد الاحتلال حتى قبل عام 1956، ومفجرة الانتفاضة الأولى عام 1987، وصانعة أول انسحاب إسرائيلي تام من أرض فلسطينية محتلة عام 2005، الأمر الذي انتزعت معه هذه المدينة الباسلة تسمية "حارسة الشعلة المقدّسة" بكل جدارة واستحقاق.
بعد أول زيارة قام بها محمود درويش إلى قطاع غزة، في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وعاد منها مثقلاً بشتى الانطباعات الأولية، سأله أصدقاؤه في رام الله؛ ماذا شاهدت في غزة؟ فقال الشاعر الذي يختصر الكلام بأبلغ العبارات؛ رأيت فيها البأس والبؤس، في تلخيص بارع للثنائية التي رافقت حياة الغزيين طوال الزمن الفلسطيني الحديث (البأس والبؤس)، وأهّلتهم وحدهم للحفاظ على جذوة النضال متقدةً بلا انقطاع سبعة عقود، فكان منهم الفدائيون الأوائل في مطلع الخمسينيات، والقادة المؤسسون لحركة فتح أولى الرصاص، وغالبية قادة حركة حماس، الشهداء منهم والقابضون على زمام القطاع حتى الآن، الأمر الذي يشرح كل ما استبطنه محمود درويش في تشخيصه الفاتن لواقع غزة الباسلة أباً عن جد.
وأحسب أن المثقفين الغزيين يسرّهم سماع مثل هذا الإطراء الصادر عن واحدٍ من غير أبناء القطاع، لا سيما في هذا الظرف العصيب، وأحسب أيضاً أنهم في أمسّ الحاجة إلى تجديد الاعتراف بهم أصحاب سبق وريادة. وحدّث ولا حرج عن الصمود والشجاعة، فهم أهل لهذا وذاك، من دون زيادة أو نقصان، رجال لم يفتّ في عضدهم ظلم ولا جور، ولم تفترْ لهم همّة أو ينحنِ لهم ظهر جراء فقر أو حصار، كما لم تقعدهم عن مواصلة رفع الراية مشاعر طاغية بالغبن والتمييز والخذلان، ولولا خشيةٌ من مبالغةٍ لقلنا إنهم هم الفلسطينيون الحقيقيون، الذين لم يتجنّسوا ولم يحملوا غير تلك الوثيقة التي كانت لهم بمثابة عقاب جماعي شامل، أورثه الآباء للأبناء والأحفاد.
غير أن هذه المطالعة ليست لتقريظ غزة الكبيرة، المترفّعة عن كل ما يحيط بها من آلام وآثام، ولا لتمجيد الغزّيين المسكونين بالعزّة، المتسابقين على تصدّر مواكب الشهداء الأبرار، وإنما لإطلاق ما يشبه النداء، وإبداء خشية مشروعة، إزاء ما يحيق بهذا الشريط الساحلي الضيق من أخطار جسام، مصدرها هذه المرة عدوٌّ غير ذلك المتربّص بها من البر والبحر والجو، ونعني به هنا الانفعال والإفراط والمغالاة، ناهيك عن سوء التقدير والتهوّر والخطأ في الحساب، بما في ذلك الاستعجال في قطف الثمار قبل الأوان، وتوظيف المكاسب الجزئية في خدمة المصالح الفئوية، وفوق ذلك كله استثمار هذه الدماء الحارّة في تأبيد الانقسام المديد، المؤسس موضوعياً لعملية انفصالٍ بين الضفة والقطاع.
بكلام آخر؛ لا تحمّلوا قطاع غزة ما لا يحتمل من أعباء فوق طاقة مجتمعٍ ينوء بالأثقال، لا تطربوا للأناشيد والمعلقات، ولا يغرّنكم كل هذا التضامن اللفظي السياسي والوجداني، المقدّر له أن يذهب، بعد حين قصير، أدراج الرياح، فجرح غزة لم يعد يؤلم، مع الأسف الشديد، إلا في موضعه، وذلك بعد أن امتلأ الجسد العربي بالجراح الراعفات، وغدت كل شاة عربية معلقة من عرقوبها حسب الأصول. ولعل ما جرى في أعقاب الحروب الثلاث الأخيرة على القطاع المحاصر، من مظاهر تعاطف كانت تخبو بسرعة قياسية، فيها عبرةٌ لكل من يعتبر، وعظة مفيدة لكل من يودّ أن يرى أبعد من أرنبة أنفه، لا تأخذه العزة بالإثم، ولا يغرّه السراب.
بعد كل هذه الدماء التي سالت أمام عدسات المراسلين في وضح النهار، وأمام مثل هذه النتائج المعنوية المتواضعة في مقابل كل هذه التضحيات الثمينة، بما في ذلك جلسة لمجلس الأمن الدولي، واجتماع لوزراء الخارجية العرب، وأخرى لمجلس حقوق الإنسان، وأيضاً في ظل هذه الظروف غير المواتية دون أدنى ريب، يجدر بكل من يعنيهم الأمر إجراء المراجعات، وإعادة تقدير الحسابات، وإمعان النظر طويلاً في الحقائق القائمة، فضلاً عن قراءة المتغيرات المحتملة بعقليةٍ باردة، فهذه مرحلة نكوصٍ شاملة تلائم الكمون والبيات أكثر مما تلائم الهجوم والاندفاع، وتستدعي التحوّط والحذر أكثر مما تتطلب من عقد المراهنات ورفع سقف التوقعات. ومن نافل القول إنها مرحلة تراجع على كل صعيد، وتغوّل أميركي محموم، قد يفضي إلى مزيد من التوترات والحروب والانهيارات، وعندها قد تذهب غزة فرق عملة، وتتعرّض لعدوانٍ أشد هولاً من ذي قبل، وهو أمرٌ ينبغي أخذه في الحساب.
لا تعمّقوا جراح غزة الراعفة بأكثر مما يقدر عليه جسدٌ مثخن، جسدٌ لم يعد فيه موضعٌ لجرح جديد، بتعبير خالد بن الوليد ذات عهدٍ بعيد، ولا تُطعموا لحمها للذئاب الإسرائيلية الجائعة، إذا وقعت الواقعة الكبرى، وهي غير مستبعدةٍ صيف هذا العام، واحذروا الاندفاع نحو التحالف الإيراني من غير تبصّر، ليس بالعواقب فقط، وإنما بما يترتب على هذه العواقب من تداعياتٍ لا ناقة فيها لغزّة ولا جمل، ولا تقعوا ضحية مشاعر الخذلان والمرارة، باستعداء العالم العربي أكثر فأكثر، وتعميم الاتهامات بالتقصير على جميع الدول، علماً أن النظام العربي البائس
يستحق اللوم الشديد، إن لم نقل الهجاء على طول الخط، ولكن ليس من غزة المنكوبة، وإنما من الشعوب العربية في المقام الأول والأخير.
ختاماً، ينبغي أن تبقى غزة حارسة الشعلة المقدسة إلى أن يحدث التحول المرغوب فيه، وعليها أن تسهر على هذه الشعلة مهما طال الوقت، وأن تظل محافظةً على الجذوة متقدةً، ولو تحت الرماد، إلى أن تتبدّل المعطيات القائمة من حولها، ويتغير الحال الذي لا يسرّ إلا الأعداء، وذلك من خلال التمسك إلى أبعد الحدود بخيار المقاومة الشعبية، وإجراء ما يمكن من توافقاتٍ ومصالحاتٍ داخلية، والسعي إلى حل مشكلاتها الحياتية، وتحسين ظروفها المعيشية، وإنصاف أبنائها أسوة بأشقائهم في الضفة الغربية، وغير ذلك من المواءمات الكفيلة بفك الحصار الجائر على نحوٍ تدريجي، وتوسيع قاعدة التفاهم البيني على إدارة الأزمة بالحد الأدنى من المشكلات الذاتية. أما فيما يتعلق بإنهاء الانقسام اللعين وتحقيق الوحدة الوطنية، فدونه خرق القتاد في هذه الآونة، ولذلك لا سبيل للحديث عنه في هذه المداخلة.
بعد أول زيارة قام بها محمود درويش إلى قطاع غزة، في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وعاد منها مثقلاً بشتى الانطباعات الأولية، سأله أصدقاؤه في رام الله؛ ماذا شاهدت في غزة؟ فقال الشاعر الذي يختصر الكلام بأبلغ العبارات؛ رأيت فيها البأس والبؤس، في تلخيص بارع للثنائية التي رافقت حياة الغزيين طوال الزمن الفلسطيني الحديث (البأس والبؤس)، وأهّلتهم وحدهم للحفاظ على جذوة النضال متقدةً بلا انقطاع سبعة عقود، فكان منهم الفدائيون الأوائل في مطلع الخمسينيات، والقادة المؤسسون لحركة فتح أولى الرصاص، وغالبية قادة حركة حماس، الشهداء منهم والقابضون على زمام القطاع حتى الآن، الأمر الذي يشرح كل ما استبطنه محمود درويش في تشخيصه الفاتن لواقع غزة الباسلة أباً عن جد.
وأحسب أن المثقفين الغزيين يسرّهم سماع مثل هذا الإطراء الصادر عن واحدٍ من غير أبناء القطاع، لا سيما في هذا الظرف العصيب، وأحسب أيضاً أنهم في أمسّ الحاجة إلى تجديد الاعتراف بهم أصحاب سبق وريادة. وحدّث ولا حرج عن الصمود والشجاعة، فهم أهل لهذا وذاك، من دون زيادة أو نقصان، رجال لم يفتّ في عضدهم ظلم ولا جور، ولم تفترْ لهم همّة أو ينحنِ لهم ظهر جراء فقر أو حصار، كما لم تقعدهم عن مواصلة رفع الراية مشاعر طاغية بالغبن والتمييز والخذلان، ولولا خشيةٌ من مبالغةٍ لقلنا إنهم هم الفلسطينيون الحقيقيون، الذين لم يتجنّسوا ولم يحملوا غير تلك الوثيقة التي كانت لهم بمثابة عقاب جماعي شامل، أورثه الآباء للأبناء والأحفاد.
غير أن هذه المطالعة ليست لتقريظ غزة الكبيرة، المترفّعة عن كل ما يحيط بها من آلام وآثام، ولا لتمجيد الغزّيين المسكونين بالعزّة، المتسابقين على تصدّر مواكب الشهداء الأبرار، وإنما لإطلاق ما يشبه النداء، وإبداء خشية مشروعة، إزاء ما يحيق بهذا الشريط الساحلي الضيق من أخطار جسام، مصدرها هذه المرة عدوٌّ غير ذلك المتربّص بها من البر والبحر والجو، ونعني به هنا الانفعال والإفراط والمغالاة، ناهيك عن سوء التقدير والتهوّر والخطأ في الحساب، بما في ذلك الاستعجال في قطف الثمار قبل الأوان، وتوظيف المكاسب الجزئية في خدمة المصالح الفئوية، وفوق ذلك كله استثمار هذه الدماء الحارّة في تأبيد الانقسام المديد، المؤسس موضوعياً لعملية انفصالٍ بين الضفة والقطاع.
بكلام آخر؛ لا تحمّلوا قطاع غزة ما لا يحتمل من أعباء فوق طاقة مجتمعٍ ينوء بالأثقال، لا تطربوا للأناشيد والمعلقات، ولا يغرّنكم كل هذا التضامن اللفظي السياسي والوجداني، المقدّر له أن يذهب، بعد حين قصير، أدراج الرياح، فجرح غزة لم يعد يؤلم، مع الأسف الشديد، إلا في موضعه، وذلك بعد أن امتلأ الجسد العربي بالجراح الراعفات، وغدت كل شاة عربية معلقة من عرقوبها حسب الأصول. ولعل ما جرى في أعقاب الحروب الثلاث الأخيرة على القطاع المحاصر، من مظاهر تعاطف كانت تخبو بسرعة قياسية، فيها عبرةٌ لكل من يعتبر، وعظة مفيدة لكل من يودّ أن يرى أبعد من أرنبة أنفه، لا تأخذه العزة بالإثم، ولا يغرّه السراب.
بعد كل هذه الدماء التي سالت أمام عدسات المراسلين في وضح النهار، وأمام مثل هذه النتائج المعنوية المتواضعة في مقابل كل هذه التضحيات الثمينة، بما في ذلك جلسة لمجلس الأمن الدولي، واجتماع لوزراء الخارجية العرب، وأخرى لمجلس حقوق الإنسان، وأيضاً في ظل هذه الظروف غير المواتية دون أدنى ريب، يجدر بكل من يعنيهم الأمر إجراء المراجعات، وإعادة تقدير الحسابات، وإمعان النظر طويلاً في الحقائق القائمة، فضلاً عن قراءة المتغيرات المحتملة بعقليةٍ باردة، فهذه مرحلة نكوصٍ شاملة تلائم الكمون والبيات أكثر مما تلائم الهجوم والاندفاع، وتستدعي التحوّط والحذر أكثر مما تتطلب من عقد المراهنات ورفع سقف التوقعات. ومن نافل القول إنها مرحلة تراجع على كل صعيد، وتغوّل أميركي محموم، قد يفضي إلى مزيد من التوترات والحروب والانهيارات، وعندها قد تذهب غزة فرق عملة، وتتعرّض لعدوانٍ أشد هولاً من ذي قبل، وهو أمرٌ ينبغي أخذه في الحساب.
لا تعمّقوا جراح غزة الراعفة بأكثر مما يقدر عليه جسدٌ مثخن، جسدٌ لم يعد فيه موضعٌ لجرح جديد، بتعبير خالد بن الوليد ذات عهدٍ بعيد، ولا تُطعموا لحمها للذئاب الإسرائيلية الجائعة، إذا وقعت الواقعة الكبرى، وهي غير مستبعدةٍ صيف هذا العام، واحذروا الاندفاع نحو التحالف الإيراني من غير تبصّر، ليس بالعواقب فقط، وإنما بما يترتب على هذه العواقب من تداعياتٍ لا ناقة فيها لغزّة ولا جمل، ولا تقعوا ضحية مشاعر الخذلان والمرارة، باستعداء العالم العربي أكثر فأكثر، وتعميم الاتهامات بالتقصير على جميع الدول، علماً أن النظام العربي البائس
ختاماً، ينبغي أن تبقى غزة حارسة الشعلة المقدسة إلى أن يحدث التحول المرغوب فيه، وعليها أن تسهر على هذه الشعلة مهما طال الوقت، وأن تظل محافظةً على الجذوة متقدةً، ولو تحت الرماد، إلى أن تتبدّل المعطيات القائمة من حولها، ويتغير الحال الذي لا يسرّ إلا الأعداء، وذلك من خلال التمسك إلى أبعد الحدود بخيار المقاومة الشعبية، وإجراء ما يمكن من توافقاتٍ ومصالحاتٍ داخلية، والسعي إلى حل مشكلاتها الحياتية، وتحسين ظروفها المعيشية، وإنصاف أبنائها أسوة بأشقائهم في الضفة الغربية، وغير ذلك من المواءمات الكفيلة بفك الحصار الجائر على نحوٍ تدريجي، وتوسيع قاعدة التفاهم البيني على إدارة الأزمة بالحد الأدنى من المشكلات الذاتية. أما فيما يتعلق بإنهاء الانقسام اللعين وتحقيق الوحدة الوطنية، فدونه خرق القتاد في هذه الآونة، ولذلك لا سبيل للحديث عنه في هذه المداخلة.
مقالات أخرى
12 نوفمبر 2024
05 نوفمبر 2024
29 أكتوبر 2024