من كان يدخل إلى مدن عجلون والطفيلة وجرش في الأردن، قبل مساء أمس، كان سيواجه، في مدخل كلّ واحدة منها، عملاً إنشائياً، يبلغ ارتفاعه قرابة الثمانية أمتار، يتألّف من صفائح حديدية وقضبان معدنية، تتقاطع من حيث التكوين، في محاولةٍ لاستلهام المفردات المكانية والجمالية لتلك المدن.
صمّم وأقام هذه الأعمال النحّات والتشكيلي الأردني غسّان مفاضلة، بناءً على مبادرة بعنوان "الإنسان والمكان"، كان قد تقدّم بها إلى وزارة الثقافة الأردنية، التي وافقت على إنجاز مشروعٍ اقترحه مفاضلة؛ يقتضي بوضع نصبٍ على مداخل المحافظات الأردنية.
أمس، أزال رئيس بلدية محافظة جرش، علي قوقزة، النصب من مدخل المدينة لـ "استبداله بأشجار النخيل"، في غياب الفنان، رغم أن الجدال المستمر حول إزالتها منذ أيام انتهى إلى ألا يحدث ذلك إلا في حضور صاحب العمل.
في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، يوضّح مفاضلة الذرائع التي قال بها قوقزة لإزالة النصب: "تحفّظ رئيس البلدية على الأعمدة الثلاثة التي تتوسّط العمل؛ لأنّها، بحسبه، تُحيل إلى "الشمعدان" الذي يتّخذ منه الإسرائيليون رمزاً، متمنيّاً عليّ لو أنّني أضفت إلى قمم الأعمدة تيجاناً مشابهة لتيجان الأعمدة الأثرية في المدينة".
في هذا السياق، يشير مفاضلة إلى طبيعة هذه المنحوتات، موضّحاً أن "الرؤية الفنية للمشروع تستلهم الإيقاع البصري لتضاريس المدن الأردنية؛ حيث ترتسم معها إمكانية منح الأعمال مذاقاً بصرياً خاصاً في الحركة والتشكيل. وتُحيل أعمال المشروع، بروحيّتها المعاصرة، إلى العلاقة المفتوحة بين الإنسان والمكان".
إلّا أنّ هذا كلّه، لم يكن ذا قيمة بالنسبة إلى رئيس البلدية، الذي تعامل مع المنحوتات، وفق مفاضلة، كأنّها "سلعٌ" أو "موضوعٌ خدماتي"، ما يُشير إلى "غياب البعد الثقافي والجمالي لدى رئيس البلدية". اقترح الفنّان على قوقزة أن يُنقل النّصب إلى مدينة عمّان، إلّا أنّه قابل هذا المقترح بالرّفض: "يتعامل رئيس البلدية مع العمل الفني بوصفه عهدةً جرى التوقيع على استلامها؛ إذ بيّن لي أنّ النّصب أصبح الآن من ممتلكات البلدية، ويفضّل وضعه في مخازنها تحاشياً لمساءلة وزارة الثقافة التي استلمه منها".
يضيف: "هؤلاء المسؤولون يتوهّمون بأنّهم أوصياء على كلّ شيء، ولا يدركون أي قيمة جمالية وفنيّة وإنسانية لشيء"، واصفاً مناقشاته مع قوقزة بـ "المشهد كاريكاتيري": "بينما أحاول أن أوضّح له طبيعة العمل ومنطلقاته البصرية والتعبيرية، يصرّ هو على التصرّف بمنتهى البيروقراطية".
وعلى ذكر وزارة الثقافة، سألنا مفاضلة عن إمكانية تدخّلها لتغيير مسار القضية، كونها مؤسّسة تُعنى برعاية الإبداع، ليجيب: "تعتبر الوزارة أن جميع الأعمال والفعاليات الثقافية والفنية التي أنتجت ضمن مناسبة "جرش مدينة الثقافة"، قد سُلِّمت للبلدية، وتؤول ملكيتها إليها، وهي صاحبة القرار في ما تراه مناسباً بشأن هذه الأعمال".
لكن مفاضلة لم يترك المسألة لتذهب أدراج الرياح، فتواصل مع رئيسة "الجمعية المَلَكية للفنون" التي يتبع لها "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة"، وجدان فواز الهاشمي، التي بدورها اتّصلت بوزيرة الثقافة الأردنية، لانا مامكغ، وطلبت منها أن يجري نقل النّصب إلى المتحف، بدلاً من رميه في المستودع. وينتظر الفنّان أن يتم اتّخاذ هذا الإجراء.
يذكّرنا مفاضلة بأعمال نحتية في عمّان، جرى تخريبها وتشويهها: "قبل قرابة عشر سنوات، طلبت أمانة عمّان عملاً نحتياً أنجزته الفنانة سامية الزرو في منتصف السبعينيات باللون الأبيض من دون الرجوع إليها. كما أن هناك عمل نفّذه الفنان نزيه عويس من خامة الحجر، تعرّض هو الآخر إلى تشويه بعد طلائه بألوان العلم الأردني. وقبل عام ونصف تقريباً، هُدم عمل ضخم بعنوان "بوابة التاريخ"، أنجزه الفنان السوري ربيع الأخرس، لإقامة إشارات ضوئية مكانه في الدوار السابع".
اقرأ أيضاً: عبث السلطة بالكاتب: كلنا رهائن