30 يونيو 2016
غنج لغوي
نطير إلى الدار البيضاء، حيث معرض الكتاب الدولي فيها، نحن أدباء فلسطين الشبان. اعتبروني شاباً، على الرغم من خمسينيتي البيضاء (خطأ رائع لن أصححه)، في دعوة ندوة أمام جمهور المعرض (شهادات الجيل الشاب في فلسطين)، وهذه (مناسبة للتذكّر الجمالي الحميم).
أفنى جيلي الشاب سنوات ما بعد "أوسلو" الصعبة الطويلة في صنع حداثة خاصة، ملتبسة ومركبة وغريبة المنشأ، سريعة الخروج عن كل شيء، فيها من الرعونة الغاضبة ما يكفي لإغاظة دعاة حكمة الزمن البليد، وفيها من السذاجة المفهومة ما كان يخيفنا ويحرجنا، آنذاك، لكننا صممنا على تحطيم كل ما يمنع خيولنا الجديدة من الصهيل المختلف، أتذكر المناخ السياسي- الثقافي البلاستيكي السائد آنذاك، صحف ومجلات محسوبة على فصائل معينة، لا تنشر ولا تحتفي ولا تشجع إلا نصوص أعضاء ذلك الفصيل، أموال تتدفق من الخارج على مشاريع ثقافية، لا يستفيد منها سوى أعضاء الفصيل الذي أرسل المال، مؤسسات ثقافية تنشأ حديثاً بدعم من فصائل معينة، لا توظف سوى أعضاء ذلك الفصيل. وحين نشأت مؤسسات السلطة، ظننا، في البداية، أن ثمة اختلافاً ما سيحدث في المشهد السياسي الجديد، ثقافياً، فإذا بالأمور هي هي، الفصيل هو هو، والمصالح الحزبية هي هي. لم يكن جيلنا يؤمن بالحزبية، كنا جميعاً نمتلك من الوعي المبكر بأهمية فصل الأدب عن الانتماء الفصائلي، ما يكفينا للفخر ومواصلة الطريق، كان منظورنا للأشياء ثورياً ثقافياً حداثياً، معياره الذوقي طزاجة الإحساس الأدبي، وعمق النص والرؤية، والامتزاج الكوني مع ثقافات العالم، إنسانياً وحضارياً، وقوة الانتماء للدهشة الجمالية الداخلية فينا. كنا نعرف أننا نحمل بذرة جموح صاعق وبينة خروج هادر عن الرؤية الأدبية والاجتماعية التي ساندتها، بوعي تخريبي كبير، رؤية فصائلية مقيتة، كان لها دور كبير في عرقلة أي نمو ثقافي صحي في بلادنا الحبيبة، (أفكر دائماً في كتابة كتاب عن دور الروح الفصائلية المصلحية الفئوية، في كسر ولادة حداثات ثقافية واجتماعية، كانت ستحدث في فلسطين، في سنوات المال والكفاح والدم).
حورب جيلي بشدة، واتهم بالميوعة الأخلاقية والثقافية، والقابلية للاختراق الأمني (لا أبالغ)، وكدنا نوصف بالعمالة، بسبب الغنج اللغوي الذي مارسه بعضنا بحق طبيعي في التجريب الفني، لكننا واصلنا (غنجنا)، وأسلوبنا في مقاربة علامات الحياة الجديدة التي تدب تجلياتها الثقافية والحضارية حولنا. لم تكن الكتب الجديدة تصل إلينا من العالم العربي. كان حصار الاحتلال خنقاً ثقافياً بشعاً. ومع ذلك، وصل إلينا دبيب الحياة المعاصرة، واستطعنا التقاط إشارات الحداثة بشكل أو بآخر، فكانت إنجازات إدوار الخراط ومحمد زفزاف ومحمد شكري وهنري ميللر وإبراهيم أصلان وأنسي الحاج ولوتريامون وأدب المتصوفة العرب زادنا وشعارنا، وكان هذا الحصار الثقافي الخانق خير داعم، بشكل أو بآخر، لنظريات دعاة الحكمة القديمة في التخندق الثقافي حول خياراتهم العفنة التي لم يعف عليها الزمن فقط، بل وكرهها أيضاً.
كبر جيلي الثقافي، وصرنا أدباء معروفين بخيارات فنية منتصرة، وغاب في النسيان فرسان الحكمة المهزومة، مع غياب حكمة الفصيل وثقته باقتراحاته. وأستطيع أن أذكر، الآن، عشرات الأسماء من أدباء زمن الثبات الذين سقطوا في جب الزمن، وعجزوا عن البقاء في زمننا، ومع عودة عشرات المثقفين الفلسطينيين إلى الوطن بعد "أوسلو"، شعرنا بأن جيشاً حداثياً يحمل معه الجديد والنضِر والغريب والمغامر من الرؤى والفكر والكتابة، قد جاء يساندنا، ويساهم في طرد المتكلسين والفاشلين والفصائليين، فساد جو من الحيوية الإبداعية، واختفى مصطلح الأدب المحلي الذي كان عنوان كتابات المرحلة القديمة.
تعرفنا بشكل أقرب وأوثق إلى كتابات محمود درويش ومحمد القيسي وغسان زقطان وزكريا محمد ويحيى يخلف وليانة بدر ومحمود شقير وفيصل قرطي وخالد درويش وطاهر رياض وزهير أبو شايب ويوسف عبد العزيز، وآخرين كثيرين، أثروا حياتنا، وأمدوها بما تحتاجها من دفقات الحداثة الإضافية. .. أتذكّر، الآن، غنجنا اللغوي، فأبتسم وأنا أهرش شعر ذاكرتي، وأحاول بلا جدوى أن أتذكر اسماً واحداً من أسماء زمن العقلانية المستبدة.
أفنى جيلي الشاب سنوات ما بعد "أوسلو" الصعبة الطويلة في صنع حداثة خاصة، ملتبسة ومركبة وغريبة المنشأ، سريعة الخروج عن كل شيء، فيها من الرعونة الغاضبة ما يكفي لإغاظة دعاة حكمة الزمن البليد، وفيها من السذاجة المفهومة ما كان يخيفنا ويحرجنا، آنذاك، لكننا صممنا على تحطيم كل ما يمنع خيولنا الجديدة من الصهيل المختلف، أتذكر المناخ السياسي- الثقافي البلاستيكي السائد آنذاك، صحف ومجلات محسوبة على فصائل معينة، لا تنشر ولا تحتفي ولا تشجع إلا نصوص أعضاء ذلك الفصيل، أموال تتدفق من الخارج على مشاريع ثقافية، لا يستفيد منها سوى أعضاء الفصيل الذي أرسل المال، مؤسسات ثقافية تنشأ حديثاً بدعم من فصائل معينة، لا توظف سوى أعضاء ذلك الفصيل. وحين نشأت مؤسسات السلطة، ظننا، في البداية، أن ثمة اختلافاً ما سيحدث في المشهد السياسي الجديد، ثقافياً، فإذا بالأمور هي هي، الفصيل هو هو، والمصالح الحزبية هي هي. لم يكن جيلنا يؤمن بالحزبية، كنا جميعاً نمتلك من الوعي المبكر بأهمية فصل الأدب عن الانتماء الفصائلي، ما يكفينا للفخر ومواصلة الطريق، كان منظورنا للأشياء ثورياً ثقافياً حداثياً، معياره الذوقي طزاجة الإحساس الأدبي، وعمق النص والرؤية، والامتزاج الكوني مع ثقافات العالم، إنسانياً وحضارياً، وقوة الانتماء للدهشة الجمالية الداخلية فينا. كنا نعرف أننا نحمل بذرة جموح صاعق وبينة خروج هادر عن الرؤية الأدبية والاجتماعية التي ساندتها، بوعي تخريبي كبير، رؤية فصائلية مقيتة، كان لها دور كبير في عرقلة أي نمو ثقافي صحي في بلادنا الحبيبة، (أفكر دائماً في كتابة كتاب عن دور الروح الفصائلية المصلحية الفئوية، في كسر ولادة حداثات ثقافية واجتماعية، كانت ستحدث في فلسطين، في سنوات المال والكفاح والدم).
حورب جيلي بشدة، واتهم بالميوعة الأخلاقية والثقافية، والقابلية للاختراق الأمني (لا أبالغ)، وكدنا نوصف بالعمالة، بسبب الغنج اللغوي الذي مارسه بعضنا بحق طبيعي في التجريب الفني، لكننا واصلنا (غنجنا)، وأسلوبنا في مقاربة علامات الحياة الجديدة التي تدب تجلياتها الثقافية والحضارية حولنا. لم تكن الكتب الجديدة تصل إلينا من العالم العربي. كان حصار الاحتلال خنقاً ثقافياً بشعاً. ومع ذلك، وصل إلينا دبيب الحياة المعاصرة، واستطعنا التقاط إشارات الحداثة بشكل أو بآخر، فكانت إنجازات إدوار الخراط ومحمد زفزاف ومحمد شكري وهنري ميللر وإبراهيم أصلان وأنسي الحاج ولوتريامون وأدب المتصوفة العرب زادنا وشعارنا، وكان هذا الحصار الثقافي الخانق خير داعم، بشكل أو بآخر، لنظريات دعاة الحكمة القديمة في التخندق الثقافي حول خياراتهم العفنة التي لم يعف عليها الزمن فقط، بل وكرهها أيضاً.
كبر جيلي الثقافي، وصرنا أدباء معروفين بخيارات فنية منتصرة، وغاب في النسيان فرسان الحكمة المهزومة، مع غياب حكمة الفصيل وثقته باقتراحاته. وأستطيع أن أذكر، الآن، عشرات الأسماء من أدباء زمن الثبات الذين سقطوا في جب الزمن، وعجزوا عن البقاء في زمننا، ومع عودة عشرات المثقفين الفلسطينيين إلى الوطن بعد "أوسلو"، شعرنا بأن جيشاً حداثياً يحمل معه الجديد والنضِر والغريب والمغامر من الرؤى والفكر والكتابة، قد جاء يساندنا، ويساهم في طرد المتكلسين والفاشلين والفصائليين، فساد جو من الحيوية الإبداعية، واختفى مصطلح الأدب المحلي الذي كان عنوان كتابات المرحلة القديمة.
تعرفنا بشكل أقرب وأوثق إلى كتابات محمود درويش ومحمد القيسي وغسان زقطان وزكريا محمد ويحيى يخلف وليانة بدر ومحمود شقير وفيصل قرطي وخالد درويش وطاهر رياض وزهير أبو شايب ويوسف عبد العزيز، وآخرين كثيرين، أثروا حياتنا، وأمدوها بما تحتاجها من دفقات الحداثة الإضافية. .. أتذكّر، الآن، غنجنا اللغوي، فأبتسم وأنا أهرش شعر ذاكرتي، وأحاول بلا جدوى أن أتذكر اسماً واحداً من أسماء زمن العقلانية المستبدة.