تبيع محلات تجهيزات الهواتف النقالة، سواء الرخيصة أو تلك الغاليّة، أغلفة شفافة لشاشات الموبايل، تمنع الفضوليين من المعارف أو الغرباء من التحديق في شاشة الموبايل. تعمل هذه الأغلفة على حصر مجال الرؤية بمستخدم الهاتف فقط، لكن الإقبال على هذه الأغلفة يدفعنا لإعادة النظر في خصوصيّة الهاتف بوصفه جهازاً من جهة، وامتداداً للشخص نفسه، يخوض عبره حوارات ونقاشات عامة وشخصيّة لا بد لبعضها أن يبقى بعيداً عن الأعين.
تبنّى هذه الفضوليّة المصور الأميركي Jeff Mermelstein، الذي راودته فكرة حين كان في شوارع نيويورك، ولمح شاشة إحداهن وهي تبحث في غوغل عن كيفية كتابة الوصيّة، ما دفعه لالتقاط صورة لشاشة هاتفها النقال، ما أدى نهاية إلى مجموعة من الصور جمعها جيف في كتاب نكتشف فيه خصوصية الهاتف النقال لكل شخص بوصفه جهازاً مادياً. إذ نشاهد الخدوش والكسور المختلفة، الأماكن المهترئة، والأهم، الشاشة وما يدور عليها من نقاشات جديّة أو تافهة، إذ من الممكن أن نقرأ رسالة انفصال بين حبيبين، أو أحدهم يبحث عن معنى كلمة ما. تغذي تجربة جيف حس التلصص فينا، تلك النظرات التي نسترقها إلى هواتف الآخرين كي نعلم ما يقومون به.
يقتحمها جيف، ويكشف لنا عن مساحات لا تباح عادة للعلن، وفيها يختلف الشخص المرئي أمامنا عن ذاته التي يقدمها عبر شاشة الهاتف، كما أنها في ذات الوقت ترصد العلاقة الحميميّة التي نمتلكها مع هواتفنا التي أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي لنا أن نكون عبرها أونلاين طوال الوقت، وأن ننشر للعلن ما نشعر به لحظة بلحظة.
لكن الاختلاف أن سلسلة الصور هذه، تكشف لنا عن السياق والشرط الذي تنتج فيها الرسائل الشخصية تلك التي لا نرى بدقة كيف تنجز، ولا نتلمس أسلوب الكتابة ولا شكل الهاتف، ولا ما قبلها أو بعدها حين تصل إلى هاتفنا.
تظهر هذه الصور في العصر الذي نعيشه، وفي ظل الكسل والفردانية والعدوى، كانتهاك لعدد من "الخصوصيات"، فالمصور الخفي يبدو كأنه يتسلل وراء كتف الشخص الغريب، يتأمل كيف يصوغ الرسالة وما هو تواتر كتابتها، ما الذي مسحه وما الذي أبقاه. هذه الخصوصيات التي تتعلق بإيقاع إنتاج النص لا نراها عادة، وتظهر أمامنا الآن وكأنها تكشف لنا عن "منطقة حميميّة"، ممنوعة، من يطلع عليها يمتلك امتيازا خاصاً، لا يناله أي أحد بسهولة.
هناك نوستالجيا من نوع ما تعتلي من يشاهد مجموعة الصور التي أنتجها جيف، إذ يتلمس المرء حميمية مفقودة حالياً بسبب غياب التلامس الجسدي، الكلمات وأسلوب ترتيبها ومكان كتابتها حلت مكان اللمس والهمس والنبر.. تلك العادات البشرية الصرفة التي تواجه تهديداً الآن في ظل جائحة كورونا، خصوصاً أن كل واحدة من الصور تعكس موقفاً إنسانياً نقوم نحن ببنائه وتخيله.. شجار بين موظف وزميله، امرأة تتغزل بشاب مرّ بجانبها فأرسلت لصديقتها تخبرها بذلك، تفاصيل يوميّة وعابرة تبقى حكر الشاشات، لا تنطق في الكثير من الأحيان، بل تبقى أسيرة الشاشات.
تدفعنا الصور للتفكير بأنفسنا، والأسلوب الذي نتبعه في إرسال الرسائل النصية عبر الهاتف، خصوصاً أن كل رسالة تشكل شذرة أو جزءاً من حوار يترك لنا تعبئة تفاصيله، فهل يا ترى حين يقرأ أحدهم ما نرسله يعبئ في مخيلته السياق بأكمله والشرط الذي نرسل ضمنه الرسالة؟ خصوصاً أننا كأولئك الذين نرى صور رسائلهم، نترك علامات نحاول إثرها نقل النبرة والصوت كالأحرف الكبيرة وطول السطر، وعلامات الترقيم، كلها علامات تخاطب المخيلة التي نتوقع من الآخر أن يكون عبرها صورتنا أثناء كتابة الرسالة.