في 17 مايو/ أيار 1968، صعد جان ـ لوك غودار، برفقة كلود لولوش، على خشبة المسرح بعد أحد عروض الدورة الـ21 لمهرجان "كانّ"، مُطالبًا بإنهاء هذه الدورة فورًا (10 ـ 24 مايو/ أيار)، تضامنًا مع العمّال والطلّاب المحتجّين في أنحاء فرنسا، خلال "مايو/ أيار 68" الشهير، وصارخًا في الجميع قائلاً: "أتوجّه إليكم من أجل التضامن مع الطلاب والعمّال، وأنتم تردّون عليّ بكلامٍ عن الـ(ترافلينغ) و(اللقطات الكبيرة). أنتم حمقى". بعد يومين (19 مايو/ أيار)، أعلن المندوب العام للمهرجان حينها روبير فافر لو بْري، توقّف الدورة نفسها (8 من أصل27 فيلمًا مُشاركًا في المسابقة الرسمية تمّ عرضها فقط).
بعد تلك اللحظة بـ50 عامًا، اختير الملصق الرسمي للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) للمهرجان من "بيارو المجنون" (1965) لغودار، واختير "كتاب الصورة"، جديده السينمائي، للمُشاركة في المسابقة الرسمية، ولمنافسة 20 فيلمًا آخر على "السعفة الذهبية".
لكن، بين اللقطتين الأولى والأخيرة، هناك تاريخ طويل من الصدام والمواءمة والتقدير بين المخرج الفرنسي السويسري والمهرجان السينمائي الأشهر في العالم. بل إن الصراع بين الطرفين عائدٌ إلى ما قبل مايو/ أيار 68، وتحديدًا مع بداية "الموجة الفرنسية الجديدة"، التي غيّرت السينما وجدّدتها، والتي كان غريبًا جدًا ألا تنال التقدير نفسه في مهرجان "كانّ" الدولي. فباستثناء حصول فرنسوا تروفو على جائزة أفضل إخراج عن "400 ضربة" عام 1959، تجاهل المهرجان بشكل شبه كامل روّاد الموجة الجديدة جميعهم: آلان ريينه وكلود شابرول وإيريك رومير وغيرهم، وغودار نفسه طبعًا، الذي كان يجرّب ويبتكر ويصنع أفلامًا مهمّة ومختلفة خلال الستينيات الفائتة، وتنال أفلامه جوائز وتكريمات متتالية من مهرجانات أخرى، كـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، الذي منحه "الدبّ الفضي كأفضل مخرج" عن A Bout De Souffle عام 1960، و"الدبّ الفضي الاستثنائي" عن Une Femme Est Une Femme عام 1961، و"الدبّ الذهبي" عن "ألفافيل، مغامرة غريبة لِلَمي كوسيون" عام 1965. و"مهرجان البندقية السينمائي الدولي (لا موسترا)" منحه جائزتي لجنة التحكيم الخاصّة و"بازينتّي" عن Vivre Sa Vie عام 1962، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة عن "الصينية" عام 1967.
في المقابل، لم يختر مهرجان "كانّ" أي فيلم من أفلام جان ـ لوك غودار خلال تلك الأعوام الذهبية في مسيرته، قبل أن يبلغ الصدام الحادّ بينهما ذروته في مايو/ أيار 1968، مع تأييد المخرج الكبير لتلك "الثورة"، منذ انطلاقتها حتى نهايتها، علمًا أن غودار اعتبر المهرجان ـ في حال عدم انحيازه إلى الطلبة والعمّال ـ "أحد أدوات النظام الديكتاتوري".
طوال السبعينيات الفائتة، لم يعرض مهرجان "كانّ" أي فيلم لغودار في أي دورة من دوراته، مع أن السينمائي بدأ يزداد تأثيرًا وقيمة، وينال تقديرًا كبيرًا في العالم بسبب "الموجة الجديدة" وفعلها الثوري. أما ثمانينيات القرن الـ20 فشهدت خفوتًا في الحضور الدولي لغودار وفي تأثيراته المختلفة، وانغماسًا له في قضايا سياسية وفكرية أكثر من رغبته في صنع أفلام بطريقة "قديمة ومحافظة، تلهي الناس عن قضاياهم المهمة"، بحسب تعبيره. رغم ذلك، بدأ مهرجان "كانّ" يتعامل مع أفلامه باحتفاء بالغ، فعرض له 8 أفلامٍ في المسابقة الرسمية بين عامي 1980 ـ مع Sauve Qui Peut (La Vie) ـ و2014، الذي شهد فوزه بجائزة لجنة التحكيم الخاصّة، عن "وداعًا للّغة"، مناصفةً مع كزافييه دولان عن Mommy.
في الدورة الحالية، التي يحمل ملصقها الرسمي لقطة للثنائي آنا كارينا وجان ـ بول بلموندو (ثنائي "بيارو المجنون")، يُشارك جان ـ لوك غودار بفيلمه الجديد "كتاب الصورة" في المسابقة الرسمية. كأنه اعتذار مبطن عن الصدام الذي حدث قبل 50 عامًا، و"اعترافًا" متجدّدًا بأحد أهم مخرجي السينما في تاريخها.