غونتر غراس مشاكساً

25 ابريل 2015
+ الخط -
غونتر غراس الروائي الألماني صاحب "الطبل الصفيح"، وفي بعض الترجمات "طبل الصفيح" أو"الطبل الصفيحي" غاب.. غيّبه الموت عن الحياة، وتناول خبرَ الوفاةِ الإعلامُ بأغلب لغات العالم وإشاراتها المعهودة حتى للصم والبكم والبصراء. لكن السؤال بعد أن عمَّ النبأ كالنار في الهشيم. هل سيبقى غراس حاضراً، يشاكس لا يهادن، كعادته في إظهار خلافاته واختلافاته، بعد رحيله. هل تبقى روحه المعاندة دائماً تقرع طبول اعتراضاتها وتقرّع، أم أن سيرته ستأفل بالموت، وأن ما أثير حوله وزامن موته لم يكن أكثر من زوبعة في فنجان؟

غراس قطف "نوبل للآداب" سنة 1999، لتدفقه الإنساني المشتعل في رفد الأدب العالمي عبر ثلاثيته الشهيرة "ثلاثية داينتسيغ"، وتقلّدَ، عن روح إنسانية متجددة فيه وثابة، جوائرعديدة في حياته، منها "جائزة كارل فون اوسيتسكي سنة  "سنة 1967 و"جائزة الأدب" التي كرّمه بها "مجمع بافاريا للعلوم والفنون" سنة 1994، عدا عن الدكتوراة الفخرية التي خصته بها جامعة برلين في 2005.

غراس المُخلَّس من الخلاسة عن أب ألماني/بروتستانتي وأم بولونية/ كاثولوكية، والذي "قرقع" في جندية هتلر لأسبابٍ، عزاها، فيما بعد، إلى اقتصادية، مع "المقرقعين" على طبول الحرب العالمية الثانية، وامتلأ بمتناقضات الحياة العائلية، بل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والقيمية، حتى تمخضت شخصيته عن صراعات كل تلك الشؤون والأحوال، وقد دلل في هذا المنحى ميخائيل يورغس، كاتب سيرته، على المؤثرات التي جبلته، وهو ينعت الطفولة الأولى لصاحب السيرة غونتر: "إنها طفولة بين الروح القدس وهتلر"، بيد أن غراس، كترميم تعويضي لروحه التي كانت أوشكت حينها تتبعثر من القهر، ارتوى من الجمال حتى الثمالة ودرس الفن وقواعده وأصوله ومذاهبه فصُقل برهافة وحساسية كما أغدقت عليه الحياة بالتجارب والخبرات، فحاز أدوات ووسائل للتعبير، ميزته في شخصه وأدبه وإنسانيته وطبعته بفرادة جمعت بين الحزم واللامبالة والجرأة والترف والفخامة والانكسار والهزيمة والأمل والحزن والسرور واليأس والحرمان والامتلاك والقهر والاقتدار والسخرية، فحفر أعماله في الذاكرة المعرفية، وهو يكسر التابوهات ويخرق المألوف، ويتحدى متمرداً النتائج بروح باردة، لا يعتوره خوف أو يعكره وجل أو يخالجه مطمع من كل ذلك في فضاء من هندسة مركَّزة، لكنها مبعثرة وخاوية وغير متلاقية، ولا متقابلة ولا متوازية أو متوازنة في ثقلها وخطوطها ومعالمها الأخرى التي تتعلق بوجودها ودولاتها، ولكونه درس النحت، واختص في كيفية التعامل مع المطرقة وتوجيه الإزميل "المِنْحَت" وبثرالصخرة والحفر فيها، أو الخشب، فقد امتلك من الصبر والأناة والرفق ما يكفيه ويؤهله لاختيار أو رسم بل قلْ نحت شخصياته وتلوينها، إذ كان غراس نحاتا مع عباراته وجمله يستنطقها كما يُستنطَق الحجر ويقشرها كما تقشَّر ثمرة البندق أو الفستق كيما يظفر باللب والمضمون فيمتّع، إثر ذاك، متلقيه بأشهى الدلالات، وأرحب المعاني، وأجلى الصور، ويمد شخوصه بسمات واقعية وخصائص مجبولة من خير وشر، تقطرت منذ الأزل عن الطبيعة البشرية.

لعل فقْدَ العالم واحداً من طراز غونتر غراس الذي خرجت روحه يوماً من أحشاء صراعات كونية فتاكة، مثقلةً بأوزار وأوجاع واقتران هذا الفقد اليوم بإبادات جديدة  تدق نواقيسها بلا تبرير في شرقنا.

avata
avata
إبراهيم سمو (سورية)
إبراهيم سمو (سورية)