قبل سنة لم يكن بإمكان الكثيرين زيارة كوناكري عاصمة غينيا، هذا البلد الأفريقي الغني الواقع في أقصى غرب القارة الأفريقية، فلقد توقفت معظم الرحلات الجوية وأغلقت الفنادق أبوابها وهرب معظم الأجانب. إنه "إيبولا"، الفيروس الفتاك الذي لا يبقي ولا يذر. "لقد انتصرنا على المرض، وطوَّرنا مؤسساتنا الصحية وأعدنا الحيوية لاقتصادنا"، تلك هي الكلمات التي تلخص ما جرى خلال عام. قالها لي الرئيس الغيني، ألفا كوندي، الملقب "البروفيسور"، لبراعته في تدبير التحالفات السياسية ولعبة الدومينو.
استقبلني ألفا، كما يسمونه في غينيا تحبباً، في القصر الجمهوري، قبل أيام. وقد كان ودع زعماء أحزاب سياسية من المعارضة جاؤوا لبحث الوضع الملتهب، بعد مواجهات دامية بين النقابات المطالبة بزيادة رواتب الموظفين في سلك التعليم من جهة، والجيش الذي ورث مواجهة التظاهرات بالقتل من جهة أخرى. لقد قضى سبعة أشخاص، لكن الحياة سرعان ما عادت إلى وتيرتها، وكأن شيئا لم يكن، يعلق أحد المستشارين المقربين من الرئيس.
دوامة العنف في غينيا لا تتوقف ومسلسل الثورات مستمر، لكن سرعان ما تحل الإشكالات بلقاء من ذلك النوع الذي جرى قبل لقائي بالرئيس، تعتذر فيه الحكومة عن صلافة جنودها، وتعتذر المعارضة عن حماسة أبنائها حد التهور. يبدو أن اللقاء كان مثمراً، قلت لكوندي. ابتسم وتمدد على الكرسي، وقال وهو يسوي وضع أحد أزرار قميص سترته الصحراوية: لقد تعودنا أن نحل أعظم الإشكالات بالحوار، نحن نسوي تركة ثقيلة من الصراعات الدامية، لكن المعركة الأهم اليوم هي التنمية. سحبني كوندي من المقاعد الأمامية في صالون بيته، حيث كنّا نتقاسم شرب الشاي الأخضر المركّز في كؤوسه الصغيرة، كما اعتاد الرجل على شربه منذ غربته في موريتانيا قبل أربعة عقود، أيام كان معارضاً شرساً للرئيس الغيني السابق، الحاج أحمد سيكوتوري، إلى مقعد آخر، توجد فيه ألبومات صور بأسماء مدن غينية توثق رحلاته داخل البلاد. ويقول "لقد أمضيت أشهراً في الإشراف على بناء بنية صالحة للعيش في مدننا. يقولون إن بلادنا هي فضيحة جيولوجية وأعجوبة. الأمر سيان، تنام على ثروات لا تحصى تحت الأرض، لكن البلد فقير وسكانه أفقر. أريد الآن أن نغير الأحوال".
يمسح الرئيس جبينه بيده، ويبتسم مردفاً "لقد قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان عندما زارنا هنا: عاصمتكم هذه لا تستحق وصف مدينة. منذ ذلك الوقت وأنا أعمل من أجل تغيير الوضع. الآن سيقوم الملك (المغربي) محمد السادس بتغيير وجه المدينة، وذلك بإصلاح كل شيء، الطرق والصرف الصحي والمساحات الخضراء. المغرب يريد مساعدتنا على واقع مختلف". قبل أن يغلق كوندي ألبوم صوره، سألني إن كنت زرت قلب المدينة، حيث تنتشر العمارات التي بناها رجال أعمال، مثل نبات الفطر، مشكلة ملامح جديدة لشكل المدينة. وأضاف "لقد قلت للمستثمرين تعالوا نتقاسم الثروة النائمة في باطن غينيا. الحكومة تستفيد والشعب يستفيد ورجال الأعمال أيضاً". وقال ألفا، الذي بدا متحمساً في حديثه معي، "قبل أسابيع كنت في دبي وأبو ظبي، وقلت لهم لا أريد أن تعطوني مالاً، يكفي أن تستثمروا أموالكم. لدينا ثروات تحتاج إلى من يستخرجها ويفيد شعبنا منها".
لقد آمن اليساري القديم، المتشبع بالاشتراكية والفكر الماركسي، والتي جعلته منفياً لعقود، بضرورة مراجعة أفكاره، ووجد أن الليبرالية هي الحل الوحيد لفتح بلاده أمام الرأسمال الأجنبي، من دون أن ينسى الاهتمام بالطبقات الفقيرة التي تعاني من النقص الفاضح في الخدمات. ما بقي من اليساري القديم هو سترته الصحراوية وبساطة ملبسه وعيشه وتلقائيته في التعامل مع الناس، وحدته القوية أحياناً في مواقفه وقناعاته الفكرية. قبل أن يودعني سألني ألفا عن أصدقائه القدامى يوم كان لاجئاً في موريتانيا، يقضي يومه ملثماً، ومرتدياً ثوبه الصحراوي الفضفاض، هرباً من عيون سيكوتوري التي تلاحق معارضيه في منافيهم، خشية أن يتمدد الفكر الماركسي ويزداد الشباب الحمر، كما كان يسميهم، مشكلين خطورة على فكر وقيم الشعب الغيني. طالت الحرب بين الطرفين إلى حين رحيل الرئيس المؤسس، قبل أن تستعيد غينيا عافيتها وتبقى على فقرها رغم غناها الكبير.