فرص مصر الضائعة

10 ديسمبر 2015
الثورة كانت فرص حقيقية للتغيير ضاعت من بين أيدينا(الفيسبوك)
+ الخط -

يقول المثل إن "الفرصة لا تأتي مرتين"، لكنها في مصر جاءت خلال الـ 50 سنة الماضية أكثر من مرة، وفي كل مرة أضعناها، مع العلم أنه مع مرور الوقت تصبح تكلفة كل فرصة جديدة أغلى من سابقاتها، بحيث تزيد "تكلفة الفرصة الضائعة".


تكلفة الفرصة الضائعة
لنبدأ أولا بفكرة (تكلفة الفرصة الضائعة) أو ما يطلق عليه، Opportunity cost ولنفترض مثلا أنك طالب في الجامعة وتريد تحسين مستقبلك الوظيفي فقررت أن تحصل على دورات لغة إنجليزية حتى تتقن الإنجليزية وبالتالي تحسن فرص عملك، هذه هي الفائدة العائدة عليك من هذا القرار)، لكن للحصول على هذه الدورة انت ستدفع مثلا –للتبسيط- 100 جنيه في مقابل تعلم اللغة بطريقة احترافية (هذه هي تكلفة هذا القرار)، لكن لحساب هذا القرار بطريقة صحيحة عليك أن تسأل نفسك ما الذي يمكن أن أفعله كبديل في الساعتين دراسة يوميا التي سأضعها لدراسة اللغة الإنجليزية، ستكتشف أنك في مرحلة الجامعة مثلا ليس لديك أى ارتباطات للعمل، وأن البديل هو مشاهدة التلفاز مثلا (وهي تكلفة تقريبا صفر) فتصبح التكلفة 100 جنيه فقط.

لنفترض أنك ستدرس أثناء عملك بعد التخرج في نفس المكان وبنفس السعر لكن، ستضطر للحصول على يوم إجازة بدون مرتب لحضور هذه الدورة (يخصم من راتبك 20 جنيها شهريا مثلا على سبيل التبسيط)، فتصبح التكلفة وقتها 120 جنيها (100 للدورة وعشرون ليوم الإجازة بدون مرتب) فهل كانت التكلفة الفعلية متساوية في الحالتين؟

- الإجابة لا.

فرغم تساوي العائد الذى سيعود عليك في الحالتين، إلا أن تكلفة الحصول على الدورة ستزيد في حالة عملك بعد التخرج مقارنة بتكلفتها أثناء فترة الجامعة، وبحساب هذه الزيادة مبكرا فإنه يمكنك تقليل تكلفة نفس القرار في المستقبل والبدء به من الآن.

خطاب التنحي
في يوم 9 يونيو/حزيران 1967 خرج عبد الناصر في خطاب التنحي على الشعب، بعد أن خسرت مصر أكثر من 9 آلاف شهيد ومفقود في الحرب ضد إسرائيل، وخسرت أراضي سيناء، علاوة على تدمير قوات الدفاع الجوي والطيران بصورة شبة كاملة، ومع الهزيمة النفسية والمعنوية للجنود خرج عبد الناصر في خطاب للجماهير عرض فيه ما حدث في الفترة الماضية، ثم ذكر: (إنني على استعداد لتحمل المسؤولية كاملة... لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر).

تنحى عبد الناصر، وكلف زكريا محي الدين برئاسة البلاد، لكن خرجت الجماهير في الشوارع تطالبه بالعودة، ورفض زكريا محي الدين أن يكون رئيس الجمهورية البديل، وأصدر مجلس الأمة ورئاسة الوزراء بيانا لرفض هذا التنحي، ليعود بعد أقل من 48 ساعة مرة أخرى إلى الحكم!

كان يمكن لمصر أن تسلك طريقا آخر تماما غير الذي سارت فيه لو أنها اتخذت قرارا مختلفا، وسارت في طريق أخر، كان يمكن لعبد الناصر أن يتنحى، وأن تأتي مجموعة من داخل النظام السياسي تصلح ما فسد، تبدأ في إعادة بناء القوات المسلحة المصرية، لكن هذه المرة باحترافية أعلى، لضمان بناء جيش وطني عصري ومحترف، لكنه لا يتدخل في السياسة، كان يمكنها أيضا أن تعيد بناء الفضاء السياسي في مصر الذي تم تأميمه لحساب عبدالناصر-الزعيم، وتعيد ضخ الدماء في الحياة السياسية بوجوه مختلفة، وتكتب دستورا جديدا فيه مزيد من الحريات السياسية التي كانت معدومة وقت عبدالناصر، كان يمكن لهذه المجموعة أن تبدأ مصالحة وطنية مع المعتقلين السياسيين في سجون ناصر، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، ومن تبقى من الشيوعيين لتعيد دمجهم في الحياة السياسية وتستفيد منهم في مواجهة المشروع الإسرائيلي، كان يمكن أن تفتح الباب أمام مشاركة أوسع للمصريين في القرارات الاقتصادية والاجتماعية وتستفيد من العقول المصرية ذات الخلفيات الاقتصادية المختلفة، بدلا من الاعتماد على فكر اقتصادي وحيد بدا وقتها واضحا أنه لم يعد يصلح للتنمية المستدامة لفترة طويلة.

كان يمكن لهذه المجموعة ان تبدأ تكوين نظام سياسي.. اقتصادي.. اجتماعي جديد أكثر حرية، وأكثر استيعابا لكل مكونات المجتمع، وأكثر براغماتية في مواجهة المشاكل المصرية، لكن هذا لم يحدث، وضاعت الفرصة!

لقد كان يوم التنحي فرصة لتغيير حقيقي في شكل النظام المصري، لكنها ضاعت للأسف، إلا أنها لم تكن الأخيرة.

ثـورة يـنايـر
ثورة يناير هي الأخرى فرصة ضائعة، فبعد 11 فبراير، وفي لحظة تاريخية لا تتكرر كثيرا في تاريخ الشعوب، كان يمكن للجيش أن يتراجع قليلا إلى الوراء في الشأن السياسي، وأن تتحد القوى الشبابية في مجموعات سياسية موحدة وتتبنى خيارات واضحة، لتكون لها قوة تأثير أكبر في المشهد، وأن تعيد بقايا النظام السابق الاندماج في المشهد الجديد من خلال رموز مجتمعية وسياسية جديدة، بدلا من معاداة الثورة الناشئة، خاصة أن الثورة تسامحت جدا معهم ولم تتعامل معهم بالحديد والنار، وكان يمكن للإسلاميين أن يبتعدوا عن المزايدات السياسية والتفكير الضيق المحدود قصير المدي، ويكون تركيزهم أكبر على إخراج اللاعب الرئيسي من المشهد (وهو الجيش) وبناء نظام سياسي أكثر حرية، وأكثر ديموقراطية، ويقبل بفكرة التداول السلمي للسلطة، والمشاركة في إدارة الدولة من أسفل، ولو حدث كل هذا فقد كانت هناك  فرصة بناء نظام سياسي واجتماعي واقتصادي جديد في مصر بتكلفة قليلة، لكن لأن اللاعبين الرئيسيين في المشهد لم يكونوا على مستوى الحدث، فإن الفرصة ضاعت أيضا، للأسف.

ذكرى التنحي، وثورة يناير كانت فرصا حقيقية للتغيير ضاعت من بين أيدينا، ومع مرور الأيام تصبح تكلفة كل فرصة للتغيير أكبر من سابقتها، الخوف أننا لو لم نعدّ أنفسنا من الآن للفرصة القادمة فربما لن نحصل على نتائج أفضل، وكمثال تعليم اللغة الإنجليزية الذي ذكرناه في البداية، فمدى نجاح أي فرصة قادمة هي في قدرتنا على أن نكون مستعدين لها من الآن، حتى نستطيع أن نقلل من تكلفتها إلى أقل حد ممكن، وإلا فإن البديل الذي سنستمر فيه هو في إضاعة الفرص القادمة مع تكاليف مرتفعة ندفع جميعا ثمنها.

(مصر)

دلالات
المساهمون