22 نوفمبر 2024
فرص نجاح التوجه نحو الحوار الوطني في ليبيا
بينما تحدث تغيراتٌ مهمة في التناول السياسي للأزمة في ليبيا، يتصاعد الصراع المسلح بشكل معقد، فمنذ ديسمبر/ كانون الأول 2016، ظهرت بيانات ومبادرات سياسية عديدة، لبضع تصورات لتحسين الحوار الوطني، وإعادة بناء الدولة على أساس الديمقراطية والمدنية والمصالح المشتركة مع دول الجوار، غير أنه على مسارٍ مواز، شكل الصراع على الموانئ النفطية (سبتمبر/ أيلول 2016 ـ مارس/ آذار 2017) وطرابلس، والتوسع في الأوامر العسكرية في المدن الشرقية، واحداً من المعضلات التي تواجه المسار السياسي، ما يثير التساؤل حول قدرة المبادرات الداخلية والدولية على الاقتراب من حلٍّ سياسي يتجاوز هذه التناقضات.
المبادرات الليبية
كانت مبادرة علي الصلابي ومبادرة المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات ضمن المبادرات التي ظهرت في هذه الفترة، حيث تسعى إلى وضع ملامح الحراك السياسي، وتمكين كل الأطراف الليبية من الدخول في الحوار الوطني.
واتجهت مبادرة الصلابي (ديسمبر/ كانون الأول 2016) إلى إعادة هيكلة الحوار السياسي، ليتجاوز النمط الثنائي، ليشمل النظام السابق. وتقوم فلسفة المقترح على مراعاة الأطراف الحقيقية من دون الارتباط بالمؤسسات القائمة والمترتبة على الإعلان الدستوري، وهي نظرة تبدو مختلفة في تناولها الأزمة عن المبادرات السابقة التي ما فتئت تركّز على الأوضاع الدستورية والكيانات المنبثقة عنها، حيث صنفت مبادرة الصلابي الأطراف الليبية لثلاث مجموعات؛ تيار المفتي، تيار خليفة حفتر، وأخيراً تيار النظام السابق.
يقترب هذا المدخل من فكرة توسيع المصالحة الوطنية، بصورة تفتح النظر لإعادة التفكير في المسار السياسي. وكما أنها لا تستبعد طرفاً على خلفية أيديولوجية أو عسكرية، فإنها تتطلع للتصدي لمسائل حيوية، كالاتفاق على صياغة ميثاقٍ وطنيٍّ، يحدد أسس الدولة الليبية ومبادئها، والأشكال السياسية المترتبة عليها، كحكومة وفاق وطني ووقف إطلاق النار، وصولاً إلى إجراء الانتخابات في أجواء مناسبة.
وكما تقترب المبادرة من الفعاليات الحقيقية في السياسة الليببة، فمن المحتمل أن تفتح الطريق لخفض هيمنة الأمم المتحدة على خيارات تقرير صلاحية الأطراف الليبية المؤهلة للمشاركة في تحقيق السلام.
كما أنه، في سياق بناء الانتقال السياسي، نشرت "المنظمة الليبية" مبادرة لإرساء السلام في ليبيا (فبراير/ شباط 2017)، تقوم فكرتها على جانبين؛ الأول، تحديد المعضلات التي تواجه الحل السياسي، بحيث ترصد المعوقات الموروثة عبر تاريخ ليبيا المعاصر، كالمركزية السياسية وتفاوت توزيع الثروة وضعف التعامل مع فكرة المواطنة وخصوصية المكونات الثقافية، وغيرها من المشكلات التي تسببت في الصراع حول الفترة الانتقالية، أما الجانب الثاني، فيقوم على استثمار قيم التنوع الفكري والاجتماعي في الوصول إلى توافقٍ بشأن المسائل الخلافية، كالمصالحة والعدالة الانتقالية.
ارتكز طرح المبادرة على عوامل شكلت الصراع الحالي، كان أهمها تجنب السياسيين مناقشة جذور الأزمة، ما ساهم في تفاقم الصراع. ولذلك تركز على أولوية تهيئة المناخ الداخلي، واحترام المصالح المشتركة للدول الأخرى، بدلاً من الدخول في عمليةٍ انتقاليةٍ تنافسية، وهنا تقوم فلسفة المبادرة على أن الانتخابات لا تمثل حلاً ملائماً في هذه المرحلة، حيث تعزّز نتائجها حالة الصراع واقتسام المؤسسات. لعل انتقال المبادرة للحديث عن إحلال السلام يشكل تطوراً مهماً، لا يقف فقط عند مستوى الحديث عن مستوى الحوار السياسي أو تحسين شروطه، وهي مسألة تتعلق بالتخطيط لمستقبل الدولة الوطنية.
سياسة مصر الانفتاحية
يقوم الاقتراب المصري من الأزمة الليبية على اعتبار "الاتفاق السياسي" أساس التسوية والخروج من الأزمة، ويمكن ملاحظة أن "بيان لقاء القاهرة" حول الأزمة الليبية ( 13 ديسمبر/ كانون الأول 2016)، يشكل تفاعل السياسة المصرية مع جانبٍ من المجتمع المدني، حيث يعكس البيان تصور "شخصياتٍ ليبية" لتسوية الأزمة، ليقوم على إعادة هيكلة الحوار الوطني، وتعديل الاتفاق السياسي، ليمثل ركيزةً للحد من الانقسام ورفض التدخل الأجنبي، كما يؤكد على الحفاظ على وحدة مؤسسات الدولة، وتحقيق المصالحة الوطنية. ولتحقيق هذه الرؤية، اتجه البيان إلى تعديل لجنة الحوار، شمول مجلس الدولة لكل أعضاء المؤتمر الوطني (المنتخبين في 7/7/2012)، وخفض أعضاء المجلس الرئاسي، وهذه المطالب هي خلاصة مناقشات جرت في القاهرة، سعت إلى تكوين إطار شعبي للعملية السياسية.
وقد بدأت مصر في اتخاذ خطوات انفتاحية في التعامل مع الأطراف الليبية، حيث وسعت من نطاق اتصالاتها مع المجلس الأعلى للدولة وحكومة الوفاق الوطني، غير أنه على الرغم من تواصل مصر مع كل الأطراف، لم يحدث تقدم جوهري في تلاقي الحكومات الليبية وتقارب مواقفها السياسية، ما يرجع، في جزء منه، إلى التناقضات بين الليبيين، وانخفاض فاعلية المبادرات السياسية، ووقوفها عند الحلول الصراعية، فلم تتمكن من جمع الأطراف الليبية في اجتماع مشترك، وهذا ما يرجع، في جزء منه، إلى تعقيداتٍ ترتبط بمواقف الليبيين أنفسهم، وقد علق رئيس حكومة التوافق الوطني، فايز السراج، على رفض خليفة حفتر مقابلته في القاهرة (فبراير/ شباط 2017)، بأنه غامض وغير مفهوم.
وعلى الرغم من إجراء حوارات غير مباشرة بين الليبيين، صدر "بيان القاهرة" في 14 فبراير/ شباط 2017، ليضع توجهاتٍ عامة لبدء مرحلة للنظر في كيفية تحقيق السلام، حيث صدر البيان عن "اللجنة الوطنية المصرية المعنية بالشأن الليبي"، بعد لقاءات مع عديدين من ممثلي المؤسسات الليبية، وكان لافتا أن لغة البيان تعكس النظرة المتوازنة تجاه المؤسسات الليبية، وهذا ما يتضح في الصلاحيات المتقاربة لمجلسي النواب والدولة، في تعديل الاتفاق السياسي، وهذا ما يتضح، ليس فقط في تشكيل اللجنة المشتركة والمتساوية الصلاحيات (بند 1)، لكن أيضاً في اعتبار القرارات التوافقية للجنة ملزمة لمجلس النواب في تعديل الإعلان الدستوري. وتعتبر السياسة المصرية أن هذه النظرة تشكل الإطار الدستوري لانتخابات تشريعية ورئاسية في فبراير/ شباط 2018 حدا أقصى.
وعلى الرغم من تبنيها دبلوماسيةً انفتاحية في التعامل مع الأزمة الليبية، شملت "المجلس الأعلى للدولة" (يناير/ شباط 2017)، يبدو أن لدى مصر قلق من تزايد دور المسلحين في ليبيا وصعود الجماعات الإسلامية إلى الحكم، أو سيطرتها على مفاصل ومؤسسات مهمة في الدولة، ما يشكل تحدياً لبناء رؤية متماسكة لمسار الحوار الوطني، تستوعب كل الفعاليات في السياسة الليبية.
نظرة شاملة لجوار ليبيا
استقر موقف مجموعة "جوار ليبيا" على أولوية الحل السياسي الشامل، وهو مصطلح ظهر في بيان القاهرة (21 يناير/ كانون الثاني 2017)، وبجانب أنه يركز على التوجه الوطني لتسوية الأزمة، فإنه يقوم على مجموعةٍ من المبادئ، حيث "ترسيخ مبدأ التوافق دون تهميش أو إقصاء، والحوار الشامل بين جميع الأطراف الليبية ونبذ العنف وإعلاء المصالحة الوطنية الشاملة"، وذلك بالإضافة إلى ضمانات الدولة المدنية والتداول السلمي على السلطة، وهي توجهاتٌ تمت صياغتها في ستة بنود، تعكس رؤية متماسكة للانتقال السياسي، وتصلح أساساً لعملية سياسية متوازنة.
لكن، في الوقت نفسه، تواجه هذه التطلعات بعض التحديات، لعل أهمها ما يرتبط بمدى توفر القوة الإلزامية للأطراف الليببة بهذه التوجهات، لأجل تكوين تصور للخروج من تنازع السلطات (الحكومات)، وإدماج حلفائها المسلحين في المؤسسات السياسية. وثمّة جدل بأن ميل مشوار الحل السياسي نحو تصنيف بعض الحركات إرهابية، ومحدودية الحديث عن الإدماج، كان نقطةً رخوةً في الانتقال نحو ديمقراطية الدولة والمواطنة، ومن ثم، يمكن أن يساهم استخدام بيان اجتماع دول "مجموعة دوار ليبيا" العاشر لمصطلح نبذ العنف، في إيجاد فرصةٍ لإدماج الكيانات المسلحة في المسار السياسي، والنظر بعقل مفتوح لبناء المؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية لاستيعاب التباينات الأيديولوجية، والقبول بالتنوع الفكري والسياسي.
وتستكمل مبادرة الدول الثلاث (الجزائر، تونس، مصر)، توجهات بيان "جوار ليبيا" القائمة على رعاية حوار وطني ليبي، يشمل كل الأطراف السياسية، وحيث يمكن ملاحظة تماثل مخرجات "إعلان تونس لدعم التسوية السياسية الشاملة في ليبيا" (21 فبراير/ شباط 2017) وتوجهاته، مع انفتاح السياسة المصرية على الأطراف الليبية، ما يشكل تطوراً نوعياً في سياسات دول جوار ليبيا العربية، وخصوصاً عندما يركز على أهمية الإطار الإقليمي في بناء المؤسسات ووقف الصراع، غير أن المشكلة التي تواجه الدول الثلاث، تكمن في جانبين، مدى القدرة على بناء إطار وطني للحوار بعيد عن التدخلات الخارجية، والقدرة على إدماج الحركات المصنفة إرهابية في المسار السياسي. تتعلق هذه المسألة بتكامل الحوار الوطني، وهي تبدو مهمة لامتصاص التوتر والاندفاع نحو الصراع المسلح، حيث يشكل الصراع حول الحقول النفطية وطرابلس وبنغازي التحدي الرئيسي للوصول إلى السلام، فهي أنماط صراع معقدة، لا يكفي معها إجراء تعديلات على الاتفاق السياسي.
وفيما تقترب المواقف الغربية من الجمود النسبي والاستقرار على دعم حكومة الوفاق من دون طرح مبادرات خلاقة، تتقاطع السياسة الروسية مع الأزمة في ليبيا في نقاط جوهرية، فمن جهة تتسارع حطوات التقارب مع خليفة حفتر والحكومة المؤقتة، ومن جهة أخرى، فتحت قنوات التواصل مع "حكومة الوفاق". وقد اتجهت سياسة حكومتي لبييا إلى فتح آفاق التعاون أمام المصالح الروسية، وهي حالة تخفي تحتها حالة من التنافس على كسب الدعم الروسي، من دون وضع تصورات للتقدم نحو السلام وبناء السلطة والدولة.
وعلى الرغم من إقرار مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، مارتن كوبلر (بيان الممثل الخاص لمجلس الأمن، 8 فبراير 2017) بعدم إحراز قدر كاف من التقدم، فقد أشار إلى بعض المكتسبات، اعتبرها مهمة، بدء الصرف من ميزانية عام 2017، ارتفاع إنتاج النفط،، وانحسار تهديد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لكنه أشار إلى أهمية معالجة الانقسامات السياسية، من خلال إجراء تعديلات "محدودة" على الاتفاق السياسي، وتشكيل الجيش والاستفادة من عوائد النفط في الحد من تدهور الأوضاع الإنسانية. يمكن القول إن التعامل الدولي على ليبيا لم يشهد تطوراً نوعياً، وهذا ما يمكن أن يساهم في في فتح فرصة للدور الإقليمي، لتقديم مساهمات سياسية، لخفض حدة الصراع في ليبيا.
تحديات السياق السياسي
تقع كل هذه المسارات والمبادرات تحت إطار ومظلة تحسين المرحلة الانتقالية، وكانت قليلة الاقتراب من المرحلة الدائمة، وعلى الرغم من وجاهتها في تجنب الحديث عن الدستور الدائم والموقف من "الهيئة التاسيسية"، سوف يظل نمط التفكير الانتقالي مسيطراً على صناعة السياسة في ليبيا، ليس فقط بسبب انتشار الصراعات، ولكن لاستمرار توارث المشكلات الملازمة للمؤسسات والكيانات السياسية، وبالتالي، يبدو من المهم إعادة تعريف مسار الوصول إلى الدستور، وخصوصاً في ظل تفكك "الهيئة"، وظهور مطالبات أخرى بالعودة لدستور الاستقلال عبر "حراك العودة إلى الشرعية الدستورية"، أو العودة إلى النظام الملكي، وهي محاولات، على الرغم من ضعف زخمها، يمكن أن تشكل حلاً ممكناً.
وفيما تتبلور المبادرات السياسية، تظهر تشكيلات عسكرية جديدة نتيجة تناقض المسار السياسي، حيث يعد تشكيل "الحرس الوطني" (13 فبراير 2017)، متغيراً مؤثراً في مشهد الصراع المسلح في ليبيا. وبغض النظر عن تشكيله وفق قانونٍ أقره "المؤتمر الوطني"، فإن ظهوره في هذه المرحلة يكشف عن مدى ديناميكية تشكل الكيانات المسلحة في ليبيا، حيث تتسم بدرجةٍ عالية من المرونة، تستطيع من خلالها فرض قيودٍ على المسار السياسي. لم تقتصر هذه الديناميكية على "الحرس الوطني"، لكنها تمتد أيضا إلى تشكيل الكتيبة 604 في غرب ليبيا، وتمركزها في سرت، وتكوين سرايا الدفاع عن بنغازي (2 يونيو/ حزيران 2016)، فهذه التشكيلات الحديثة نسبياً توضح التعقيدات المترتبة على استمرار الصراع المسلح، ويعكس اختلاف مكونها الفكري تزايد احتمالات الصراع في ما بينها.
لا تختلف هذه النتائج عن عدم انتهاء مجلس النواب من اختيار ممثليه للجنة الحوار الوطني أو تنازع الحكومتين في طرابلس، فهي واحدةٌ من مؤشرات ضعف استجابة المؤسسات القائمة للتطلعات والمبادرات الوطنية أو الدولية، ما يطرح النقاش حول مدى التعديلات اللازمة لكي يرتب اتفاق الصخيرات حقوقاً والتزامات متوازنة لكل الأطراف الليبية، حيث إنه، في ظل الأبنية والتركيبة المتناقضة، لا يبدو أن التعديلات المقترحة قادرةٌ على الاستجابة لمطالب ما زالت إقصائية وصراعية. ولذا، تبدو أهمية التفكير في إعادة هيكلة للسياسة والمصالحة، وباعتبار أن الخلاف حول طبيعة المؤسسة العسكرية كان العقبة في مسار الحوار السياسي، فإنه يمكن تخفيف الضغوط على المؤسسات المدنية، باقتراح فيدرالية عسكرية من خلال تقسيمها إلى ثلاث مناطق متساوية الصلاحيات وإخضاعها لإدراة مدنية.
المبادرات الليبية
كانت مبادرة علي الصلابي ومبادرة المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات ضمن المبادرات التي ظهرت في هذه الفترة، حيث تسعى إلى وضع ملامح الحراك السياسي، وتمكين كل الأطراف الليبية من الدخول في الحوار الوطني.
واتجهت مبادرة الصلابي (ديسمبر/ كانون الأول 2016) إلى إعادة هيكلة الحوار السياسي، ليتجاوز النمط الثنائي، ليشمل النظام السابق. وتقوم فلسفة المقترح على مراعاة الأطراف الحقيقية من دون الارتباط بالمؤسسات القائمة والمترتبة على الإعلان الدستوري، وهي نظرة تبدو مختلفة في تناولها الأزمة عن المبادرات السابقة التي ما فتئت تركّز على الأوضاع الدستورية والكيانات المنبثقة عنها، حيث صنفت مبادرة الصلابي الأطراف الليبية لثلاث مجموعات؛ تيار المفتي، تيار خليفة حفتر، وأخيراً تيار النظام السابق.
يقترب هذا المدخل من فكرة توسيع المصالحة الوطنية، بصورة تفتح النظر لإعادة التفكير في المسار السياسي. وكما أنها لا تستبعد طرفاً على خلفية أيديولوجية أو عسكرية، فإنها تتطلع للتصدي لمسائل حيوية، كالاتفاق على صياغة ميثاقٍ وطنيٍّ، يحدد أسس الدولة الليبية ومبادئها، والأشكال السياسية المترتبة عليها، كحكومة وفاق وطني ووقف إطلاق النار، وصولاً إلى إجراء الانتخابات في أجواء مناسبة.
وكما تقترب المبادرة من الفعاليات الحقيقية في السياسة الليببة، فمن المحتمل أن تفتح الطريق لخفض هيمنة الأمم المتحدة على خيارات تقرير صلاحية الأطراف الليبية المؤهلة للمشاركة في تحقيق السلام.
كما أنه، في سياق بناء الانتقال السياسي، نشرت "المنظمة الليبية" مبادرة لإرساء السلام في ليبيا (فبراير/ شباط 2017)، تقوم فكرتها على جانبين؛ الأول، تحديد المعضلات التي تواجه الحل السياسي، بحيث ترصد المعوقات الموروثة عبر تاريخ ليبيا المعاصر، كالمركزية السياسية وتفاوت توزيع الثروة وضعف التعامل مع فكرة المواطنة وخصوصية المكونات الثقافية، وغيرها من المشكلات التي تسببت في الصراع حول الفترة الانتقالية، أما الجانب الثاني، فيقوم على استثمار قيم التنوع الفكري والاجتماعي في الوصول إلى توافقٍ بشأن المسائل الخلافية، كالمصالحة والعدالة الانتقالية.
ارتكز طرح المبادرة على عوامل شكلت الصراع الحالي، كان أهمها تجنب السياسيين مناقشة جذور الأزمة، ما ساهم في تفاقم الصراع. ولذلك تركز على أولوية تهيئة المناخ الداخلي، واحترام المصالح المشتركة للدول الأخرى، بدلاً من الدخول في عمليةٍ انتقاليةٍ تنافسية، وهنا تقوم فلسفة المبادرة على أن الانتخابات لا تمثل حلاً ملائماً في هذه المرحلة، حيث تعزّز نتائجها حالة الصراع واقتسام المؤسسات. لعل انتقال المبادرة للحديث عن إحلال السلام يشكل تطوراً مهماً، لا يقف فقط عند مستوى الحديث عن مستوى الحوار السياسي أو تحسين شروطه، وهي مسألة تتعلق بالتخطيط لمستقبل الدولة الوطنية.
سياسة مصر الانفتاحية
يقوم الاقتراب المصري من الأزمة الليبية على اعتبار "الاتفاق السياسي" أساس التسوية والخروج من الأزمة، ويمكن ملاحظة أن "بيان لقاء القاهرة" حول الأزمة الليبية ( 13 ديسمبر/ كانون الأول 2016)، يشكل تفاعل السياسة المصرية مع جانبٍ من المجتمع المدني، حيث يعكس البيان تصور "شخصياتٍ ليبية" لتسوية الأزمة، ليقوم على إعادة هيكلة الحوار الوطني، وتعديل الاتفاق السياسي، ليمثل ركيزةً للحد من الانقسام ورفض التدخل الأجنبي، كما يؤكد على الحفاظ على وحدة مؤسسات الدولة، وتحقيق المصالحة الوطنية. ولتحقيق هذه الرؤية، اتجه البيان إلى تعديل لجنة الحوار، شمول مجلس الدولة لكل أعضاء المؤتمر الوطني (المنتخبين في 7/7/2012)، وخفض أعضاء المجلس الرئاسي، وهذه المطالب هي خلاصة مناقشات جرت في القاهرة، سعت إلى تكوين إطار شعبي للعملية السياسية.
وقد بدأت مصر في اتخاذ خطوات انفتاحية في التعامل مع الأطراف الليبية، حيث وسعت من نطاق اتصالاتها مع المجلس الأعلى للدولة وحكومة الوفاق الوطني، غير أنه على الرغم من تواصل مصر مع كل الأطراف، لم يحدث تقدم جوهري في تلاقي الحكومات الليبية وتقارب مواقفها السياسية، ما يرجع، في جزء منه، إلى التناقضات بين الليبيين، وانخفاض فاعلية المبادرات السياسية، ووقوفها عند الحلول الصراعية، فلم تتمكن من جمع الأطراف الليبية في اجتماع مشترك، وهذا ما يرجع، في جزء منه، إلى تعقيداتٍ ترتبط بمواقف الليبيين أنفسهم، وقد علق رئيس حكومة التوافق الوطني، فايز السراج، على رفض خليفة حفتر مقابلته في القاهرة (فبراير/ شباط 2017)، بأنه غامض وغير مفهوم.
وعلى الرغم من إجراء حوارات غير مباشرة بين الليبيين، صدر "بيان القاهرة" في 14 فبراير/ شباط 2017، ليضع توجهاتٍ عامة لبدء مرحلة للنظر في كيفية تحقيق السلام، حيث صدر البيان عن "اللجنة الوطنية المصرية المعنية بالشأن الليبي"، بعد لقاءات مع عديدين من ممثلي المؤسسات الليبية، وكان لافتا أن لغة البيان تعكس النظرة المتوازنة تجاه المؤسسات الليبية، وهذا ما يتضح في الصلاحيات المتقاربة لمجلسي النواب والدولة، في تعديل الاتفاق السياسي، وهذا ما يتضح، ليس فقط في تشكيل اللجنة المشتركة والمتساوية الصلاحيات (بند 1)، لكن أيضاً في اعتبار القرارات التوافقية للجنة ملزمة لمجلس النواب في تعديل الإعلان الدستوري. وتعتبر السياسة المصرية أن هذه النظرة تشكل الإطار الدستوري لانتخابات تشريعية ورئاسية في فبراير/ شباط 2018 حدا أقصى.
وعلى الرغم من تبنيها دبلوماسيةً انفتاحية في التعامل مع الأزمة الليبية، شملت "المجلس الأعلى للدولة" (يناير/ شباط 2017)، يبدو أن لدى مصر قلق من تزايد دور المسلحين في ليبيا وصعود الجماعات الإسلامية إلى الحكم، أو سيطرتها على مفاصل ومؤسسات مهمة في الدولة، ما يشكل تحدياً لبناء رؤية متماسكة لمسار الحوار الوطني، تستوعب كل الفعاليات في السياسة الليبية.
نظرة شاملة لجوار ليبيا
استقر موقف مجموعة "جوار ليبيا" على أولوية الحل السياسي الشامل، وهو مصطلح ظهر في بيان القاهرة (21 يناير/ كانون الثاني 2017)، وبجانب أنه يركز على التوجه الوطني لتسوية الأزمة، فإنه يقوم على مجموعةٍ من المبادئ، حيث "ترسيخ مبدأ التوافق دون تهميش أو إقصاء، والحوار الشامل بين جميع الأطراف الليبية ونبذ العنف وإعلاء المصالحة الوطنية الشاملة"، وذلك بالإضافة إلى ضمانات الدولة المدنية والتداول السلمي على السلطة، وهي توجهاتٌ تمت صياغتها في ستة بنود، تعكس رؤية متماسكة للانتقال السياسي، وتصلح أساساً لعملية سياسية متوازنة.
لكن، في الوقت نفسه، تواجه هذه التطلعات بعض التحديات، لعل أهمها ما يرتبط بمدى توفر القوة الإلزامية للأطراف الليببة بهذه التوجهات، لأجل تكوين تصور للخروج من تنازع السلطات (الحكومات)، وإدماج حلفائها المسلحين في المؤسسات السياسية. وثمّة جدل بأن ميل مشوار الحل السياسي نحو تصنيف بعض الحركات إرهابية، ومحدودية الحديث عن الإدماج، كان نقطةً رخوةً في الانتقال نحو ديمقراطية الدولة والمواطنة، ومن ثم، يمكن أن يساهم استخدام بيان اجتماع دول "مجموعة دوار ليبيا" العاشر لمصطلح نبذ العنف، في إيجاد فرصةٍ لإدماج الكيانات المسلحة في المسار السياسي، والنظر بعقل مفتوح لبناء المؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية لاستيعاب التباينات الأيديولوجية، والقبول بالتنوع الفكري والسياسي.
وتستكمل مبادرة الدول الثلاث (الجزائر، تونس، مصر)، توجهات بيان "جوار ليبيا" القائمة على رعاية حوار وطني ليبي، يشمل كل الأطراف السياسية، وحيث يمكن ملاحظة تماثل مخرجات "إعلان تونس لدعم التسوية السياسية الشاملة في ليبيا" (21 فبراير/ شباط 2017) وتوجهاته، مع انفتاح السياسة المصرية على الأطراف الليبية، ما يشكل تطوراً نوعياً في سياسات دول جوار ليبيا العربية، وخصوصاً عندما يركز على أهمية الإطار الإقليمي في بناء المؤسسات ووقف الصراع، غير أن المشكلة التي تواجه الدول الثلاث، تكمن في جانبين، مدى القدرة على بناء إطار وطني للحوار بعيد عن التدخلات الخارجية، والقدرة على إدماج الحركات المصنفة إرهابية في المسار السياسي. تتعلق هذه المسألة بتكامل الحوار الوطني، وهي تبدو مهمة لامتصاص التوتر والاندفاع نحو الصراع المسلح، حيث يشكل الصراع حول الحقول النفطية وطرابلس وبنغازي التحدي الرئيسي للوصول إلى السلام، فهي أنماط صراع معقدة، لا يكفي معها إجراء تعديلات على الاتفاق السياسي.
وفيما تقترب المواقف الغربية من الجمود النسبي والاستقرار على دعم حكومة الوفاق من دون طرح مبادرات خلاقة، تتقاطع السياسة الروسية مع الأزمة في ليبيا في نقاط جوهرية، فمن جهة تتسارع حطوات التقارب مع خليفة حفتر والحكومة المؤقتة، ومن جهة أخرى، فتحت قنوات التواصل مع "حكومة الوفاق". وقد اتجهت سياسة حكومتي لبييا إلى فتح آفاق التعاون أمام المصالح الروسية، وهي حالة تخفي تحتها حالة من التنافس على كسب الدعم الروسي، من دون وضع تصورات للتقدم نحو السلام وبناء السلطة والدولة.
وعلى الرغم من إقرار مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، مارتن كوبلر (بيان الممثل الخاص لمجلس الأمن، 8 فبراير 2017) بعدم إحراز قدر كاف من التقدم، فقد أشار إلى بعض المكتسبات، اعتبرها مهمة، بدء الصرف من ميزانية عام 2017، ارتفاع إنتاج النفط،، وانحسار تهديد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لكنه أشار إلى أهمية معالجة الانقسامات السياسية، من خلال إجراء تعديلات "محدودة" على الاتفاق السياسي، وتشكيل الجيش والاستفادة من عوائد النفط في الحد من تدهور الأوضاع الإنسانية. يمكن القول إن التعامل الدولي على ليبيا لم يشهد تطوراً نوعياً، وهذا ما يمكن أن يساهم في في فتح فرصة للدور الإقليمي، لتقديم مساهمات سياسية، لخفض حدة الصراع في ليبيا.
تحديات السياق السياسي
تقع كل هذه المسارات والمبادرات تحت إطار ومظلة تحسين المرحلة الانتقالية، وكانت قليلة الاقتراب من المرحلة الدائمة، وعلى الرغم من وجاهتها في تجنب الحديث عن الدستور الدائم والموقف من "الهيئة التاسيسية"، سوف يظل نمط التفكير الانتقالي مسيطراً على صناعة السياسة في ليبيا، ليس فقط بسبب انتشار الصراعات، ولكن لاستمرار توارث المشكلات الملازمة للمؤسسات والكيانات السياسية، وبالتالي، يبدو من المهم إعادة تعريف مسار الوصول إلى الدستور، وخصوصاً في ظل تفكك "الهيئة"، وظهور مطالبات أخرى بالعودة لدستور الاستقلال عبر "حراك العودة إلى الشرعية الدستورية"، أو العودة إلى النظام الملكي، وهي محاولات، على الرغم من ضعف زخمها، يمكن أن تشكل حلاً ممكناً.
وفيما تتبلور المبادرات السياسية، تظهر تشكيلات عسكرية جديدة نتيجة تناقض المسار السياسي، حيث يعد تشكيل "الحرس الوطني" (13 فبراير 2017)، متغيراً مؤثراً في مشهد الصراع المسلح في ليبيا. وبغض النظر عن تشكيله وفق قانونٍ أقره "المؤتمر الوطني"، فإن ظهوره في هذه المرحلة يكشف عن مدى ديناميكية تشكل الكيانات المسلحة في ليبيا، حيث تتسم بدرجةٍ عالية من المرونة، تستطيع من خلالها فرض قيودٍ على المسار السياسي. لم تقتصر هذه الديناميكية على "الحرس الوطني"، لكنها تمتد أيضا إلى تشكيل الكتيبة 604 في غرب ليبيا، وتمركزها في سرت، وتكوين سرايا الدفاع عن بنغازي (2 يونيو/ حزيران 2016)، فهذه التشكيلات الحديثة نسبياً توضح التعقيدات المترتبة على استمرار الصراع المسلح، ويعكس اختلاف مكونها الفكري تزايد احتمالات الصراع في ما بينها.
لا تختلف هذه النتائج عن عدم انتهاء مجلس النواب من اختيار ممثليه للجنة الحوار الوطني أو تنازع الحكومتين في طرابلس، فهي واحدةٌ من مؤشرات ضعف استجابة المؤسسات القائمة للتطلعات والمبادرات الوطنية أو الدولية، ما يطرح النقاش حول مدى التعديلات اللازمة لكي يرتب اتفاق الصخيرات حقوقاً والتزامات متوازنة لكل الأطراف الليبية، حيث إنه، في ظل الأبنية والتركيبة المتناقضة، لا يبدو أن التعديلات المقترحة قادرةٌ على الاستجابة لمطالب ما زالت إقصائية وصراعية. ولذا، تبدو أهمية التفكير في إعادة هيكلة للسياسة والمصالحة، وباعتبار أن الخلاف حول طبيعة المؤسسة العسكرية كان العقبة في مسار الحوار السياسي، فإنه يمكن تخفيف الضغوط على المؤسسات المدنية، باقتراح فيدرالية عسكرية من خلال تقسيمها إلى ثلاث مناطق متساوية الصلاحيات وإخضاعها لإدراة مدنية.