الكارثة، الصفعة، العِقاب، الأحد الأسود وغيرها من الكلمات لوصف النتائج التي حصل عليها الحزب الاشتراكي الحاكم في فرنسا. وهو ما يعني لمن يحب الاختصار، هزيمة قاسية للرئيس فرانسوا هولاند، وهي أسوء من هزيمتي 1983 و2001، بل هي "أكبر هزيمة في انتخابات بلدية في تاريخ الحزب الاشتراكي". والحقيقة أن الحزب الإشتراكي، الذي كان يعرف أنه سيُعاقَب لم يكن يتوقع مثل هذه النتائج. إذ تخطئ استطلاعات الرأي للمرة الألف. وإذا كان الحزب قد منّى نفسه الاستيلاء على مارسيليا لما تَحمله من رمزية، فإنّ العكس هو الصحيح، إذ استطاع الحزب اليميني المتطرف خطف إحدى بلديات هذه المدينة التي ظل قلبُها يميل يمينا، مع رابع ولاية للسياسي العجوز جان كلود غودان. وهكذا لم تّسْلم من هذا الاكتساح لليمين واليمين المتطرف "التاريخي" من المدن الكبرى سوى باريس وستراسبورغ، وضاعت مدن كثيرة "رمزية"، كمدينة ليموج، التي كانت معقلا للاشتراكيين منذ سنة 1912، واستطاع حزب الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف) تحقيق إنجاز تاريخي غير مشهود، وهو ما يعني أن هذا الحزب أصبح، فعلا، حزبا "طبيعيا" في المشهد السياسي الفرنسي، وصار بمقدوره، من الآن فصاعدا، أن يجعل من عدة مدن مُختبَراً لأطروحاته وبرامجه.
وعلى الرغم من الصراعات التي تنخر اليمين الفرنسي ، وحرب الزعامات المثيرة للضحك، والفضائح التي تهدد بعض قياداته التاريخية (نيكولا ساركوزي، إدوار بالادور وغيرهما)، فقد استطاع تحقيق إنجاز تاريخي، وإذا أضفنا إلى هذا عودة زعيم يمين الوسط فرانسوا بايرو المظفرة، فإن هذا الانتصار يبشر بعودة قوية لليمين في الاستحقاقات القادمة، ومنها الانتخابات الأوروبية، وهو ما سيعني تنظيم معارضة قوية للرئيس فرانسوا هولاند، وربما منعه من ولاية رئاسية ثانية. ولم تكن المحافظة على مارسيليا وحدها من بشَّرَ بهذا "الربيع" اليميني، بل إن كثيرا من المدن التي تصوت تاريخيا يسارا انقلبت يمينا، وأوشكت باريس، المدينة التي تصنع رؤساء الجمهورية، كما يقال، أن تعود لليمين، لكنها بقيت في يد الاشتراكيين وفازت بها آن هيدالغو وهذه هي المرة الأولى التي تصل فيها سيدة لرئاسة بلدية العاصمة. وإذا تتبعنا بعض زعماء اليمين الذين لا يجدون حَرَجا في التعامل مع حزب مارين لوبين العنصري، فإن اليمين واليمين المتطرف ألحقا أكبر هزيمة بالحزب الاشتراكي في تاريخه.
وإذا كان 70 في المائة من الفرنسيين لا يجدون حرجا في التأكيد على نزوعهم العنصري، فقد جاءت هذه الانتخابات لتمنحهم ممثلين "شرعيين" و"منتخبين". وهكذا أصبح لليمين المتطرّف بلدياته في تسع مدن فرنسية، وسيكون بمقدوره تطبيق برامجه التي ناضل كثيرا من أجل وضعها على المحك. ومن بين كبريات هذه المدن بيزيي، التي أصبح فيها روبير مينار، السكرتير العام السابق لـ"مراسلين بلا حدود"، والذي يتميز بسلاطة لسان جعلته يُطالب غير ما مرة بمنح حرية التعبير للعنصرييين والتشكيكيين، عمدة. ومن بين المدن التي فاز فيها اليمين المتطرف مدينة فريجوس ولوبونتي وبوكير وغيرها. والجدير بالذكر، هنا، أن ثلاث شخصيات كاريزمية من الحزب فشلت في هذه الانتخابات وهي فلوريان فيليبوت (الرقم 2 في الحزب) ولويس أليوت (زوج مارين لوبين) والمحامي الشهير جيلبرت كولار، وهو أحد نائِبَيْ هذا الحزب في البرلمان.
وإذا كان الامتناع عن التصويت الذي وصل إلى 38 في المائة من الناخبين الفرنسيين، وهو رقم تاريخي، قد أضرّ بالحزب الاشتراكي، فهو ليس السبب الوحيد، إذ غالبا ما تكون الخسارة في مثل هذه الانتخابات، من نصيب الحزب الحاكم، خصوصا إذا كانت الأزمة الاقتصادية متفاقمة والبطالة قياسية، والإصلاحات بطيئة وتم تناسي الوعود الانتخابية المُغْرِيَة. وإذا كان الرئيس الفرنسي قد رفض في السابق كل المناشدات، حتى من داخل حزبه، لإجراء تعديل واسع، فإنه هذه المرة لن يفلت من الأمر. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن 80 في المائة من الفرنسيين يريدون هذا التعديل، ويريدون رحيل رئيس الوزراء . وسيحاول هذا التعديل منح إشارة إلى الفرنسيين بأن الرئيس تفهم الدرس الانتخابي جيدا. وليس من المستبعد أن يَعْهَدَ فرانسوا هولاند برئاسة الحكومة للسيدة مارتين أوبري التي فازت للمرة الثالثة في مدينة ليل، والتي تحظى برصيد مهم لدى الطبقات الوسطى والشعبية.
ورغم أن الفرنسيين من أصول عربية وإسلامية لا يُكوّنون كتلة متراصّة، وهم يصوّتون تقليديا، لصالح اليسار، فقد قررت نسبة مهمة منهم، التصويت لليمين، هذه المرة، بسبب الموقف البارد من الاشتراكيين تجاههم. وقد ساهمت القوانين الاشتراكية التي تسمح للمثليين بالزواج وأيضا التفكير في تدريس نظرية النوع في نفور المسلمين من الحزب الاشتراكي، كما أن تساهل الحكومة مع مرتكبي الجرائم الإسلاموفوبية في الوقت الذي تتشدد فيه مع مرتكبي الأفعال "المعادية للسامية"، ساهم في خلق درجة من البرودة وعدم التفاهم مع اليسار. ورغم بعض مظاهر القلق من هذا النجاح المفاجئ لليمين المتطرف فإن المسلمين وغيرهم سينظرون إليه بالمجهر لاكتشاف طريقته في إدارة هذه المدن وتبيّن أي انحراف عن نهج "الجمهورية"، الضامنة لكل الحقوق.