لا تخلو العلاقة بين فرنسا والأجانب المقيمين فيها من مدٍّ وجزرٍ عميقين، طبّعتها رواسب الاستعمار ومنطق الحماية على مرّ العقود الماضية. اعترفت باريس بطريقة غير مباشرة بأهمية المقيمين فيها، إلى درجة أصبح فيها موضوع الأجانب جزءا من كل خطاب سياسي أو حملة رئاسية.
وترجم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، هذا الجدال، عبر إدراجه التزاماً في حملته الرئاسية في عام 2012، يقضي بمنح الأجانب "حق التصويت". وجاء في البند الـ50 من البنود الـ60 لبرنامج هولاند الرئاسي، ما يلي "سوف أمنح حق التصويت في الانتخابات المحلية للأجانب المقيمين بصفة قانونية في فرنسا منذ خمس سنوات". لم يحقق هولاند هذا الوعد حتى الآن، معيداً إلى الذاكرة وعداً مماثلاً أطلقه الرئيس الفرنسي الراحل الاشتراكي فرانسوا ميتران، الذي أعلن التزامه منح حق التصويت للأجانب المقيمين في فرنسا. وحمل اقتراح ميتران الرقم 80 من بين 110 اقتراحات، التزم بتنفيذها في عام 1981، لكنه لم يفعل.
وبقي حق منح التصويت للأجانب، يراوح مكانه، كوعد قديم يتجدد مع كل استحقاق انتخابي ثم يخبو، ويظهر في كل لحظات الحياة السياسية اليومية، من استطلاعات للرأي وأزمات اقتصادية واجتماعية ومسألة العنصرية.
ودفع كل ذلك، رئيس الوزراء، مانويل فالس، إلى القول إن "تصويت الأجانب في فرنسا ليس مطلباً قوياً للفرنسيين". وجزم أن "التصويت ليس عنصراً قوياً في الاندماج في المجتمع الفرنسي". كما أن هولاند لم يعد يعتبر الأمر أولوية.
علماً أن في كل استحقاق انتخابي فرنسي، يهرع اليسار الفرنسي إلى مغازلة أصوات الفرنسيين المتحدرين من المغرب العربي وأفريقيا، ويَعِدُهم بحق تصويت الأجانب. ورغبة منه في مساءلة المسؤولين الفرنسيين، تحديداً اليسار الحاكم، ووضعه أمام مسؤولياته وتعهداته، أجرى موقع "رسالة المُواطَنَة" استطلاعاً للرأي حول حق الأجانب في فرنسا في المشاركة في الانتخابات، فكانت النتائج إيجابية جداً، على الرغم من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، الذي يجعل، عادة، من المهاجرين والأجانب أكباش فداء، وهو ما علّق عليه الصحافي والمحلل السياسي الفرنسي ميشال سودي بالقول "نعم، يجب على الأجانب أن يشاركوا في الانتخابات".
وقد كشف هذا الاستطلاع، الذي أُجري ما بين 4 و7 نوفمبر/تشرين الثاني، حول حق المهاجرين المقيمين في فرنسا في التصويت في الانتخابات البلدية والأوروبية، أنه على الرغم من كل التحولات السياسية ونجاحات اليمين المتطرف في كل الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، ومع كل الهزائم التي مُني بها اليسار الاشتراكي الحاكم، فإن أغلبية نسبية من الفرنسيين لا تزال تؤيد حق التصويت للأجانب، الذين يدفعون نفس الضرائب ويعيشون نفس الهموم مع مواطنيهم الفرنسيين.
وحسب النتائج التي تم تحصيلها بعد استجواب 1008 أشخاص، فقد وافق 47 في المائة على مشاركة الأجانب في الانتخابات، في مقابل معارضة 44 في المائة. وإذا كان الرجال قد عارضوا بغالبيتهم، وبنسبة 49 في المائة في مقابل 43 في المائة، فإن النساء، على عكسهم، كُنَّ أكثر تقبلاً لتصويت الأجانب، بنسبة 51 في المائة في مقابل 39 في المائة.
والطريف في الأمر أن المصوّتين الذين يتجاوزون سنّ الـ65، كانوا الأكثر مُعارِضة لتصويت الأجانب، وبنسبة 58 في المائة في مقابل 33 في المائة. في حين أن الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و24 سنة، كانوا أكثر تقبلاً للفكرة، وبنسبة 61 في المائة. أما الذين تتراوح أعمارهم بين 27 و34 سنة، فلم يعترض منهم سوى 27 في المائة.
للمكان الجغرافي وعدد السكان أيضاً، دورٌ في تحديد طبيعة الجواب. فالفكرة تجد قبولاً أفضل في المدن الكبرى منه في المجتمعات الريفية، التي تصل نسبة المعارضة فيها إلى 54 في المائة، بينما تصل نسبة المعارضة إلى 50 في المائة في البلدات التي يقلّ عدد سكانها عن 20 ألف شخص. ويوافق 49 في المائة من سكان البلدات التي يتجاوز عدد سكانها الـ50 ألف شخص، على حق تصويت الأجانب، وترتفع النسبة إلى 67 في المائة في باريس وضواحيها.
للعمل والبطالة دورٌ أيضاً في مسألة تقبّل الفكرة أو معارضتها. إذ يعارض 47 في المائة من العاطلين عن العمل و49 في المائة من العمال المستقلين هذا الحق، وتصل نسبة الرفض إلى 58 في المائة لدى المتقاعدين، بينما عبّر 49 في المائة من المستخدمين عن دعمهم لتصويت الأجانب، وارتفعت النسبة إلى 50 في المائة في المِهَن المتوسطة، و53 في المائة لدى المهن الحرة، لتصل لدى العمال إلى 54 في المائة.
أما سياسياً، فيعارض 84 في المائة من المتعاطفين مع حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف، حق تصويت الأجانب. وتنخفض النسبة لدى المتعاطفين مع اليمين التقليدي إلى 69 في المائة، ويعارض 64 في المائة من أعضاء حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية"، هذا الحقّ. علماً أن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، سيعود إلى قيادة "الاتحاد" قبل نهاية نوفمبر/تشرين الثاني.
وعلى عكس اليمين، فإن اليساريين يبقون الأكثر تقبّلاً لتصويت الأجانب، وتصل إلى 72 في المائة، وحتى أنها تصل إلى نسبة 73 في المائة لدى المتعاطفين مع الخضر "الإيكولوجيين" ومع الحزب الاشتراكي، وإلى نسبة 70 في المائة بين أنصار "جبهة اليسار" (المكون من حزب اليسار والحزب الشيوعي). ما يعني أن لا مبرّر لدى اليسار الحاكم في التأجيل والتسويف بعد اليوم.