فرنسا تلملم الجراح... وبلجيكا متأهبة

18 يناير 2015
السلطات البلجيكية بدأت بنشر الجيش في الشوارع (فرانس برس)
+ الخط -

بدأت فرنسا تستعيد هدوءها بعد الهجوم الذي استهدف مجلة "شارلي إيبدو" وما رافقه من تخوّفات من عمليات إرهابية قد تضرب البلاد، فيما تبقى الأسئلة عن المستقبل والتحرك الفرنسي المرتقب لمواجهة ظاهرة التطرف، وعودة المقاتلين الذين يحملون الجنسية الفرنسية من سورية والعراق إلى بلادهم.

وبعد يوم من وصف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الهجمات التي شهدتها بلاده بأنها "11-9 الفرنسية"، عاد للدفاع أمس السبت عن حرية التعبير، معتبراً أنها من قيم فرنسا، وذلك غداة تظاهرات غاضبة في عدد من البلدان؛ احتجاجاً على نشر "شارلي إيبدو" رسماً جديداً للنبي محمد.

وشدد هولاند على أن "فرنسا لديها مبادئ وقيم، وهذه القيم هي خصوصاً حرية التعبير، ولقد ساندنا تلك البلدان في الحرب ضد الإرهاب". ورداً على اسئلة صحافيين حول إحراق العلم الفرنسي خلال تظاهرات في عدة بلدان، ولا سيما أفريقية، قال هولاند "لم ننته بعد من تلك الممارسات، ويجب معاقبتها لأنها غير مقبولة عندما تقع في فرنسا أو في الخارج".

وتُشكّل الهجمات على "شارلي إيبدو"، فرصة مواتية للسلطات الفرنسية، للتدخل في أفريقيا لحماية مصالحها، بحجة مكافحة الإرهاب. هذا المنحى بدأت ملامحه تظهر في خطاب للرئيس الفرنسي، الخميس أمام السلك الدبلوماسي في قصر الإليزيه، دعا فيه إلى ردّ "جماعي" و"حازم" في مواجهة الإرهاب "الذي نحاربه".

وعقّب على الهجوم الذي استهدف "شارلي إيبدو" بالقول إنّ "المجرمين ارتكبوا جريمتهم باسم أيديولوجية همجية، أيديولوجية داعش والقاعدة، أيديولوجية الكراهية".

واستبعد تدخّل بلاده بمفردها في ليبيا ضد من وصفهم بـ "الإرهابيين"، قائلاً إن "ليبيا عنصر مهم في انتشار الإرهاب، وواجبنا يتمثل في أن نحشد الأطراف المعنية كي تتفاوض وتشكّل حكومة وحدة"، مضيفاً: "يجب أن ندفع الأطراف المعنية إلى تشكيل حكومة موحدة، وأن ننزع سلاح الجماعات التي انتشرت في ليبيا، والتدخل ضد الإرهابيين الذين يتحكمون بجزء من الأراضي الليبية، وإن طُلِب من فرنسا ذلك، فإنه لا يمكن أن تتدخل وحدها".

أما عند الجارة بلجيكا، فلا يزال التأهب الأمني قائماً، بعد توقيف القوات الأمنية خلية من 15 شخصاً كانت تحضّر لقتل شرطيين. وأكدت وسائل إعلام بلجيكية أمس السبت أن العقل المدبر للخلية، هو جهادي بلجيكي مشهور ذهب إلى سورية وأصدر أمراً بشن العملية من اليونان أو من تركيا.

وذكرت صحيفة "درنيير أور" أن "محققينا يبحثون عن زعيم الخلية الجهادية" عبد الحميد أباعود بمساعدة مكتب التحقيقات الفدرالي (إف.بي.آي)". وأوضحت الصحيفة أن هذه "الشخصية معروفة في سورية"، إذ انضم إلى صفوف تنظيم "الدولة الإسلامية" في سورية.

ميدانياً أيضاً، بدأ الجيش ينتشر أمس السبت في المواقع الحساسة في بلجيكا، للحلول مكان قوات الشرطة، ولا سيما في انفير (انتويرب) في الشمال حيث تعيش مجموعة كبيرة من اليهود.

وأفاد مكتب رئيس الوزراء شارل ميشال، في بيان، أن "اللجنة الوزارية المصغّرة قررت نشر 300 جندي بصورة تدريجية، وسيتم نشر هؤلاء الجنود في بروكسل وانفير. كما يمكن نشرهم في فرفييه ومواقع أخرى".

لملمة الجراح

وانطلقت فرنسا، في عملية لملمة جراحها، فيما مبيعات "شارلي إيبدو"، في طبعتها الجديدة، لم تتوقف بعد، دافعة إلى الأكشاك قراء جدداً، تأثروا بكل الوقفات وخصوصاً بالدعوة الرئاسية للتظاهر الجماهيري وبالشحن "القومي" الذي تلا الجريمة الإرهابية البشعة.

وكانت صحيفة "لوموند" بدأت، قبل ثلاثة أيام، بإفساح المجال لأصوات تدين الجريمة، وتسمي الأسماء بمسمياتها، ولكنها لا تجد نفسَها ممثلة فيما يسمى بـ "الإجماع"، وتريد قراءة أخرى أشمل للكارثة وطرق معالجة تداعياتها، إذ لا يجوز أن تظلَّ فرنسا في حالة حداد فقط.

وقد ذهب الكاتب المغربي الفرنسي الطاهر بن جلون في هذا الاتجاه، إذ أكد، بعد إدانته الشديدة للجريمة، وبعد تشديده على دور الحرية وإظهار حالة غضبه الشديد مما وقع، على أن الإسلام بريء من الإرهاب وحب الانتقام.

وإذ اعتبر الكاتب أن الجهل مسؤول عما حدث، ألحّ على وجوب المقاومة، مركزاً على التحذير من حالة "الانطواء" التي عرفتها فرنسا أخيراً. وقال إن "فرنسا تفقد، ببطء، روحها، ولم تعد تعترف بتراثها وتقاليدها. أفكار ضيقة وبائسة تحتل الميديا كي تقول، تحت وطأة رداءتها أو أنانيتها المتعبة، كيف أن هذا البلد سمح لنفسه أن يُحْتَلَّ".

واختتم بن جلون مقاله في صحيفة "رقم واحد"، بما يلي: "علينا أن نقاوم، ليس فقط الرعب المخطط له من قبل أعداء الديمقراطية، ولكن أيضاً خطابات وبرامج من يجذبون فرنسا نحو الخوف والحقد".

أما صحيفة "ليبراسيون"، التي أظهرت نوعاً من التماهي مع طروحات "شاربي إيبدو"، فلا تزال تخشى انحسار هذا الإجماع، وخفوت هذه الاندفاعة. وكتبت في صفحتها الأولى: "الاندفاعة التي وُلِدت مع حركة شارلي لا يجب أن تخفت". ورصدت خمسة مَسالك لنهضة جمهورية، هي: المُواطَنة والعلمانية والتعليم والعدالة والميديا.

في ما يخص المُواطَنة بدأت الطبقة السياسية تكتشف أن قسماً كبيراً من المواطنين لا يُصوّتون لأنهم يعتقدون أن السياسة لن تغيّر من أحوالهم الميؤوس منها. ولأن الدولة لم توفر لهم العمل، الذي هو مفتاح الاندماج والمُواطَنة الحقيقية. إنهم "منسيو" الجمهورية.

والمُواطَنة تتضمن، ضمن ما تتضمنه، حق السكن والصحة والتكوين والثقافة والشغل. ويوجد قسم من السكان محرومين من هذه الحقوق، وهو ما يمنع من الوصول إلى المُواطَنَة الكاملة والكلية.

أما العلمانية، فينتقد المؤرخ والسوسيولوجي جان بوبيروت، مؤلف كتاب "العلمانية المُزوَّرَة"، انزلاق "ضرورة حيادية الدولة إلى المجتمع ذاته". ويقترح أن يقتصر دور وزارة الداخلية على المسائل الأمنية ومكافحة الإرهاب في حين تتكفل وزارة العدل بعلاقات الجمهورية مع الأديان من أجل ضمان حرية ممارسة التدين.

وحول التعليم، تطالب الفيلسوفة بربارا كاسين، بمنح الأولوية لتعلّم إصدار الحكم وإصدار النقد.

أما العدالة، فبعد أن عبّرت القانونية والمتخصصة في قضايا القانون الدولي والإرهاب، ميراي ديلماس-مارتي عن ابتهاجها لأن فرنسا لم تسقط في فخ "باتريوت آكت" وانحرافاته المتمثلة في تعميم التعذيب والاعتقال الطويل كما حدث في غوانتانامو، تتساءل "كيف يمكننا التمييز بين الأفكار التي تصدم في إطار عقلية التعددية والانفتاح وبين الأفكار التي تتعلق بالتشجيع على الحقد والاستفزاز وتبرير الجريمة؟".

المسلك الخامس هو الميديا، وهنا تعترف "ليبراسيون" أنه من غير المألوف رؤية عدد كبير من الفرنسيين يُقبلون على شراء الصحف.

بعد الاعتداء، طبعت "شارلي إيبدو" أكثر من خمسة ملايين نسخة، وهو رقم قياسي فرنسي. كل الصحف والمواقع الإلكترونية والتلفزيونات والإذاعات حققت أرقاماً قياسية غير مسبوقة. ولكن الكثير منها ارتكب أخطاء، فمنها من نشر تواجد قوات التدخل الأمني، والتسرّع في الكشف عن اسمي الأخوين كواشي. ويعترف الصحافي برونو فرّابات بسقوط الكثير من الصحف في فخ الهستيريا وفي السباق نحو "السبق الصحافي"، ويرى أنه من الضروري الانتظار قبل التعبير، حتى "نجعل مجتمعنا أقل كاريكاتورية".

وعاد موضوع جديد للظهور في الساحة الفرنسية، ففي كل مرة تتعرض فيه الجمهورية الفرنسية لهزات كبيرة، يستذكر الساسة، على اختلاف مشاربهم السياسية والأيديولوجية، تقصيراً تجاه الأحياء الشعبية. حدث هذا الأمر مع مسيرة الجيل الثاني عام 1982، ومع انتفاضة الأحياء الشعبية الكبرى عام 2005، وها هو الموضوع يعود، من جديد. وعلى الرغم من الوعود السياسية المختلفة، آخرها وُعود هولاند الانتخابية وهو يزور الأحياء الشعبية في باريس، لم يحدُث أي شيء.

"تحرّر" الكلام العنصري

شكّلت أحداث "شارلي إيبدو" ساحة للبعض في فرنسا، لإطلاق كلامهم العنصري وتعزيز موجة الإسلاموفوبيا. وانسجاماً مع تصريح رئيسة حزب "الجبهة الوطنية" المتطرف مارين لوبين، بعيد الاعتداءات الإرهابية الدموية، التي رأت فيها لحظة فارقة في السياسة الفرنسية الداخلية، من حيث "تحريرها" للقول السياسي، بدأت تنطلق أصواتٌ تنتقد المسلمين، بشكل مباشر، ولا تميز بين الغالبية منهم، المندمجة، بشكل أو بآخر، في المجتمع، والتي تعيش دينها في احترام شديد للعلمانية والطوائف الأخرى، وبين أقلية صغيرة غُرّر بها أو تُركت لوحدها على الهامش في فرنسا.

ويقول الصحافي الفرنسي المعروف فيليب تيسون، إن المسلمين جميعاً (لم يميّز بينهم) مُثيرُو الفتن والفوضى في فرنسا، مؤكداً أنه لن يخاف من قول الحقيقة. ويسأل "من أين يأتي الاعتداء على العلمانية، إن لم يكن من المسلمين؟ إن المسلمين هم، اليوم، من يشككون في العلمانية".

المساهمون