19 أكتوبر 2019
فرنسا... جبهة جمهورية في مواجهة الجبهة الوطنية
أكدت انتخابات الأقاليم الفرنسية في دورها الأول، الأسبوع الماضي، مجدداً، أن الجبهة الوطنية، حزب اليمين المتطرف، أصبحت ثالث قوة، بغض النظر عن الترتيب، حسب طبيعة الاستحقاقات الانتخابية، في المشهد السياسي الفرنسي، منهية بذلك هيمنة الثنائية الحزبية التي دامت عقوداً، حيث تداول الحزبان اليميني الجمهوري (بمختلف مسمياته، وبمعية مختلف حلفائه) والحزب الاشتراكي (بمعية مختلف حلفائه) على السلطة. وعمل الحزبان، في العقدين الأخيرين، على إقامة ما اصطلح عليه في القاموس السياسي الفرنسي بالجبهة الجمهورية، كل مرة يحقق فيها حزب اليمين المتطرف تقدماً في الانتخابات، للحيلولة دون نجاحه. تتمثل هذه الجبهة الجمهورية في تنازل متبادل بين مرشحي اليسار واليمين الجمهوري، في حال تقدم مرشح اليمين المتطرف عليهما، أو على أحدهما، بشكل يسمح له بالتتويج في الدور الثاني، أي تصويت أحدهما للآخر، وبالانسحاب من الدور الثاني، لترك المجال للأوفر حظاً لمنافسة مرشح اليمين المتطرف. وشكلت هذه الجبهة الجمهورية آلية انتخابية قيمية، قطعت الطريق في عدة استحقاقات انتخابية أمام حزب لوبان. وتعد الجبهة الجمهورية سلوكاً سياسياً متحضراً تسعى فيه القوى المتمسكة بقيم الجمهورية ومبادئها إلى سد الطريق أمام حزبٍ متطرفٍ، يضع هذه القيم على المحك، بل يعد بالتخلي عن بعضها، وتعديل بعضها الآخر. وبلغت هذه الجبهة الجمهورية أوجها في الانتخابات الرئاسية في أبريل/نيسان 2002، لما فاز جاك شيراك (بعهدة ثانية) في الدور الثاني بنسبة فاقت 80% من الأصوات على خصمه جون-ماري لوبان، زعيم الجبهة الوطنية آنذاك، بفضل أصوات ناخبي اليسار (بمختلف أطيافه).
بيد أنه، مع تصلب عود اليمين المتطرف والخلافات الحادة والاتهامات المتبادلة بين اليسار واليمين الجمهوري، وتبني الأخير بعض أفكار الجبهة الوطنية، بدأت الجبهة الجمهورية تتصدع تدريجياً. وتلقت ضربة قاسية بمناسبة الانتخابات الإقليمية الحالية، بعدما قرّر الجمهوريون (الاسم الجديد لحزب اليمين الجمهوري، بزعامة الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي) رفض تشكيل جبهة جمهورية ضد اليمين المتطرف. لكن، على الرغم من ذلك، تمسك الحزب الاشتراكي بها، وسحب مرشحيه من الدور الثاني في إقليمين في أقصى شمال البلاد، وفي جنوب شرقها (تحصلت مارين ابنة لوبان في الإقليم الأول على 40% من الأصوات، فيما تحصلت حفيدته ماريون على أزيد من 30% من الأصوات في الإقليم الثاني) في الدور الأول.) حقق فيهما اليمين المتطرف أعلى نسب في الدور الأول الأسبوع الماضي. وهذه هي المرة الأولى التي لا تتم فيها المعاملة بالمثل، في إطار الجبهة الجمهورية، وفي سياق انتخابي مواتٍ للغاية للجبهة الوطنية المتطرفة. ولم تكن هذه مفاجأة، لأن ساركوزي أعلن، في وقت سابق، أنه لن يختار بين اليسار واليمين المتطرف (كون برامجهما تضر بفرنسا)، ما أثار حينها حفيظة اليسار.
يتبادل الحزبان التهم فيما يتعلق بصعود اليمين المتطرف، فاليمين الجمهوري يقول إن اليسار هو السبب، وأن الجبهة الوطنية تحقق أكبر النتائج الانتخابية لمّا يكون اليسار في الحكم (وهذا صحيح جزئياً فقط). أما اليسار الاشتراكي فيقول إن صعودها يعود إلى تبني اليمين الجمهوري وتطبيعه أفكارها وشعاراتها. وفيما يتبادلان التهم، كالعادة، في الحملات الانتخابية، تتهمهما الجبهة الوطنية بقيادة البلاد إلى مأزق، وتحملهما مسؤولية الوضع، لتناوبهما على السلطة عقوداً.
المثير في نتائج الدور الأول التقدم الواضح للجبهة الوطنية في ثلاثة أقاليم، مما يعني أن احتمالات فوزها برئاسة إقليمين على الأقل، ولأول مرة في تاريخها، ورادة جداً، بيد أنها لم تحسم على الرغم من ذلك الأمور سلفاً. فتصويت اليسار لصالح مرشح اليمين الجمهوري، وافتقار الجبهة الوطنية إلى مخزون انتخابي إضافي، وتغير سلوك الناخبين، بين الدورين الأول والثاني، عوامل تحد من حظوظ الجبهة الوطنية في الدور الثاني.
أما أسباب تصويت الناخبين لليمين المتطرف فهي نفسها: تدهور الوضع الاقتصادي، وعدم
نجاح اليمين واليسار في تحسين الوضع، فضلاً عن لعب اليمين المتطرف على المشاعر المعادية للأجانب وللمهاجرين، وتحميلهم ما آلت إليه الأمور. وتؤكد هذه الانتخابات تحولاً نوعياً لاحظناه في انتخابات سابقة، هو أن التصويت للجبهة تحول، تدريجياً، من تصويت احتجاجي على سياسات اليسار الاشتراكي واليمين الجمهوري إلى تصويت قناعة: قناعة بأفكار وخطاب اليمين المتطرف، مما يعني نوعاً من مأسسة الخطاب العنصري شيئاً فشيئاً مع انتخاب ممثلين عن هذا الحزب، في مختلف الهيئات المنتخبة في البلاد. لكن، ماذا عن مفعول العمليات الإرهابية التي هزت باريس وضاحيتها الشمالية-الغربية؟ بالطبع، صعود الجبهة الوطنية ونجاحاتها الانتخابية سابقة لهذه الأحداث. لكن، من الواضح أن هذه العمليات شكلت حافزاً إضافياً لبعض الفرنسيين للتصويت لصالحها. وتفيد استطلاعات الرأي بأن هذه العمليات ساهمت في رفع عدد المصوتين لها، لأنها جعلت من العمليات حجة لتأكيد صحة خطابها، حيث ازداد خطابها حدة وتشدداً، في الأيام الماضية، حيال المهاجرين والجالية العربية-الإسلامية والإسلام. وساهم هذا التشدد في ربح أصوات جديدة، لكنه، في الوقت نفسه، تسبب في تعبئة مضادة، حيث استخدم اليسار، وحتى بعض مرشحي اليمين الجمهوري، خطابها المتشدد حجة إضافية لسد الطريق أمامها في الدور الثاني، وتجنيب فرنسا حكم حزبٍ يتبنى خطاباً عنصرياً ومناوئاً لأوروبا.
بالطبع، ضرب ساركوزي، بهذه الجبهة، الجمهورية عرض الحائط، ورفض سحب مرشحيه الأقل حظاً لفسح المجال لمرشحي اليسار، للفوز أمام مرشحي الجبهة الوطنية، بينما تمسك اليسار الاشتراكي بها. لكن، بغضّ النظر عن تخلي حزب ساركوزي عنها (وإن كانت هناك قيادات في الحزب لا تساند موقفه)، فإن الجبهة الجمهورية مجرد إدارة انتخابية لاحتواء ظاهرة اليمين المتطرف، فهي آلية ظرفية لا أكثر، بينما تتطلب مواجهته استراتيجية سياسية واضحة المعالم وطويلة الأمد، تبدأ بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الفرنسيين، وتصحيح الاختلالات التي تستخدمها الجبهة الوطنية المتطرفة حججاً للتوغل السياسي والاجتماعي. ولا جدال في أن فشل الحكومات اليمينية واليسارية المتعاقبة أصبح، بحد ذاته، وقوداً انتخابياً للجبهة الوطنية، على الرغم من أنها لا تقدم حلولاً بديلة. وفضلاً عن ذلك، عوض تفكيك خطابها وكشف مخاطر برنامجها، انساقت الأحزاب الحاكمة، بفعل ضغط الرأي العام والجبهة نفسها، وراء بعض أفكار اليمين المتطرف وشعاراته، مساهمة بذلك في تطبيعها في المجتمع الفرنسي. ويلعب حزب ساركوزي دوراً أساسياً في تكييف أفكار اليمين المتطرف وتطبيعها، بدعوى أن القضايا التي يقول بها ليست ملكاً له، وأنه يحق لأي حزب أن يحمل أية قضية تهم الوطن (بالطبع، ليس المشكل في القضايا المثارة، وإنما في كيفية مقاربتها). هدف حزب ساركوزي غير المعلن هو استمالة جزء من ناخبي الجبهة الوطنية، وحجته: نحن أيضاً حزب يدافع عن القضايا الأمنية والاجتماعية التي تهم الشعب الفرنسي، والفرق بيننا وبين الجبهة الوطنية أننا حكمنا البلاد وسنحكمها. وبالتالي، سنفي بوعودنا، أما الجبهة فلن تحكم. وبالتالي، فتصويتكم لها غير مجد. بغضّ النظر عن صحة هذه المنطق من عدمه، فإن النجاحات الانتخابية المتتالية لليمين المتطرف تجعله يقترب من الحكم شيئاً فشيئاً، مما يفقد هذه الحجة معناها. ويزيد الجبهة الجمهورية تصدعاً فيما تزداد الجبهة الوطنية المتطرفة تماسكاً وقوةً.
ما أصعب حال جبهة الاعتدال في زمن جبهة التطرف، ليس في فرنسا فقط، بل في الديار الأوروبية والعربية. وكأن المجتمعات في هذه الدول ضاقت ذرعاً بالاعتدال، وصارت أكثر تقبلاً للتطرف، بمختلف أطيافه وروافده ومسوغاته.
بيد أنه، مع تصلب عود اليمين المتطرف والخلافات الحادة والاتهامات المتبادلة بين اليسار واليمين الجمهوري، وتبني الأخير بعض أفكار الجبهة الوطنية، بدأت الجبهة الجمهورية تتصدع تدريجياً. وتلقت ضربة قاسية بمناسبة الانتخابات الإقليمية الحالية، بعدما قرّر الجمهوريون (الاسم الجديد لحزب اليمين الجمهوري، بزعامة الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي) رفض تشكيل جبهة جمهورية ضد اليمين المتطرف. لكن، على الرغم من ذلك، تمسك الحزب الاشتراكي بها، وسحب مرشحيه من الدور الثاني في إقليمين في أقصى شمال البلاد، وفي جنوب شرقها (تحصلت مارين ابنة لوبان في الإقليم الأول على 40% من الأصوات، فيما تحصلت حفيدته ماريون على أزيد من 30% من الأصوات في الإقليم الثاني) في الدور الأول.) حقق فيهما اليمين المتطرف أعلى نسب في الدور الأول الأسبوع الماضي. وهذه هي المرة الأولى التي لا تتم فيها المعاملة بالمثل، في إطار الجبهة الجمهورية، وفي سياق انتخابي مواتٍ للغاية للجبهة الوطنية المتطرفة. ولم تكن هذه مفاجأة، لأن ساركوزي أعلن، في وقت سابق، أنه لن يختار بين اليسار واليمين المتطرف (كون برامجهما تضر بفرنسا)، ما أثار حينها حفيظة اليسار.
يتبادل الحزبان التهم فيما يتعلق بصعود اليمين المتطرف، فاليمين الجمهوري يقول إن اليسار هو السبب، وأن الجبهة الوطنية تحقق أكبر النتائج الانتخابية لمّا يكون اليسار في الحكم (وهذا صحيح جزئياً فقط). أما اليسار الاشتراكي فيقول إن صعودها يعود إلى تبني اليمين الجمهوري وتطبيعه أفكارها وشعاراتها. وفيما يتبادلان التهم، كالعادة، في الحملات الانتخابية، تتهمهما الجبهة الوطنية بقيادة البلاد إلى مأزق، وتحملهما مسؤولية الوضع، لتناوبهما على السلطة عقوداً.
المثير في نتائج الدور الأول التقدم الواضح للجبهة الوطنية في ثلاثة أقاليم، مما يعني أن احتمالات فوزها برئاسة إقليمين على الأقل، ولأول مرة في تاريخها، ورادة جداً، بيد أنها لم تحسم على الرغم من ذلك الأمور سلفاً. فتصويت اليسار لصالح مرشح اليمين الجمهوري، وافتقار الجبهة الوطنية إلى مخزون انتخابي إضافي، وتغير سلوك الناخبين، بين الدورين الأول والثاني، عوامل تحد من حظوظ الجبهة الوطنية في الدور الثاني.
أما أسباب تصويت الناخبين لليمين المتطرف فهي نفسها: تدهور الوضع الاقتصادي، وعدم
بالطبع، ضرب ساركوزي، بهذه الجبهة، الجمهورية عرض الحائط، ورفض سحب مرشحيه الأقل حظاً لفسح المجال لمرشحي اليسار، للفوز أمام مرشحي الجبهة الوطنية، بينما تمسك اليسار الاشتراكي بها. لكن، بغضّ النظر عن تخلي حزب ساركوزي عنها (وإن كانت هناك قيادات في الحزب لا تساند موقفه)، فإن الجبهة الجمهورية مجرد إدارة انتخابية لاحتواء ظاهرة اليمين المتطرف، فهي آلية ظرفية لا أكثر، بينما تتطلب مواجهته استراتيجية سياسية واضحة المعالم وطويلة الأمد، تبدأ بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الفرنسيين، وتصحيح الاختلالات التي تستخدمها الجبهة الوطنية المتطرفة حججاً للتوغل السياسي والاجتماعي. ولا جدال في أن فشل الحكومات اليمينية واليسارية المتعاقبة أصبح، بحد ذاته، وقوداً انتخابياً للجبهة الوطنية، على الرغم من أنها لا تقدم حلولاً بديلة. وفضلاً عن ذلك، عوض تفكيك خطابها وكشف مخاطر برنامجها، انساقت الأحزاب الحاكمة، بفعل ضغط الرأي العام والجبهة نفسها، وراء بعض أفكار اليمين المتطرف وشعاراته، مساهمة بذلك في تطبيعها في المجتمع الفرنسي. ويلعب حزب ساركوزي دوراً أساسياً في تكييف أفكار اليمين المتطرف وتطبيعها، بدعوى أن القضايا التي يقول بها ليست ملكاً له، وأنه يحق لأي حزب أن يحمل أية قضية تهم الوطن (بالطبع، ليس المشكل في القضايا المثارة، وإنما في كيفية مقاربتها). هدف حزب ساركوزي غير المعلن هو استمالة جزء من ناخبي الجبهة الوطنية، وحجته: نحن أيضاً حزب يدافع عن القضايا الأمنية والاجتماعية التي تهم الشعب الفرنسي، والفرق بيننا وبين الجبهة الوطنية أننا حكمنا البلاد وسنحكمها. وبالتالي، سنفي بوعودنا، أما الجبهة فلن تحكم. وبالتالي، فتصويتكم لها غير مجد. بغضّ النظر عن صحة هذه المنطق من عدمه، فإن النجاحات الانتخابية المتتالية لليمين المتطرف تجعله يقترب من الحكم شيئاً فشيئاً، مما يفقد هذه الحجة معناها. ويزيد الجبهة الجمهورية تصدعاً فيما تزداد الجبهة الوطنية المتطرفة تماسكاً وقوةً.
ما أصعب حال جبهة الاعتدال في زمن جبهة التطرف، ليس في فرنسا فقط، بل في الديار الأوروبية والعربية. وكأن المجتمعات في هذه الدول ضاقت ذرعاً بالاعتدال، وصارت أكثر تقبلاً للتطرف، بمختلف أطيافه وروافده ومسوغاته.