أم أكرم فلسطينية في الرابعة والثمانين. كانت شابة في السابعة عشرة عندما هُجّرت من قرية الزيب في عكا مع زوجها وأهلها إلى لبنان. لم يتمكنوا يومها من أخذ شيء من منزلهم. كلّ ما استطاعوه الفرار من عصابات "الهاغانا" الصهيونية التي قتلت الناس وذبحت الأطفال.
عبر البحر لجأوا إلى مدينة صور (أقصى جنوب لبنان)، ومنها باتجاه مدينة صيدا (جنوب) براً. وهناك تعيش حتى اليوم في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين بعد وفاة زوجها.
كانت في قريتها الفلسطينية واحدة من النساء المتعلمات القليلات. أما حياتها كلاجئة فكانت بسيطة للغاية. في عين الحلوة عمل زوجها مزارعاً في بساتين صيدا. وبعدها انتقل إلى بيروت للعمل الزراعي في منزل أحد الأثرياء المعروفين، فسكنا فترة في حديقة المنزل.
بعدها عن فلسطين نغّص عليها حياتها دائماً. ما زالت حتى اليوم تتمنى العودة للموت فيها، وهي على يقين أنها ستعود، ولن يطول الانتظار كما تقول. لها من الأولاد اثنان فقط أكبرهما معوّق، والثاني تزوج وعاش مع زوجته معها شأن أخيه.
تحافظ أم أكرم على التقاليد ذاتها التي كانت تمارسها في فلسطين، وتحرص على أن تعلمها لأولاد ابنها الذين بقوا لها في هذه الحياة، بعد موت زوجها. وبالإضافة إليهم ترعى ابنها أكرم الذي يحتاج إلى مساعدة دائمة، فلا تستطيع تركه وحده في المنزل. كما لم تشأ يوماً إرساله إلى مأوى للأشخاص المعوقين كي لا تخسره.
الخبز المنزلي من تلك التقاليد التي تحافظ عليها. ففي فلسطين لم تكن الأفران الحديثة متوفرة في القرى. أما اليوم فتحافظ على هذا التقليد لأسباب غذائية: "الخبز الذي نخبزه في البيت كلفته أكبر مما نشتريه من الأفران، لكنه أفضل في الجودة والنظافة، وطعمه أشهى خصوصاً مع الملوخية والفاصولياء". تضيف: "أحب أن أخبز هذا النوع من الخبز، خصوصاً أنّ أحفادي يحبون المناقيش التي أعدّها على الفرنية، وكل أنواع المعجنات الأخرى". أما عن طريقة تجهيزه، فتقول: "أستيقظ مع الفجر، أتوضأ وأصلي. ثم أبدأ بنخل الطحين، لأضعه في وعاء خاص به، أضع فوقه الخميرة، والماء الفاتر والملح، وأعجنه، وأنتظر حتى يخمر. ثم أبدأ بتقسيمه بالكوب وأرقّه، وأتركه قليلاً حتى يرتاح العجين، وبعد أن أشعل الفرن أبدأ بالخبز".
تتذكر عادات فلسطين: "الفرنية كانت في كل بيت. لم تكن بالشكل نفسه كما اليوم وكانت تسمى الطابونة. تصنع بمزيج من الطين والقش المجبولين سوياً. في وسطها نضع صاجاً من الحديد، لنوقد تحته الحطب المشتعل، وعندما يحمّى نبدأ بالخبز عليه". تشير أم أكرم إلى أنّها بنت طابونة في الحديقة التي عمل فيها زوجها الراحل في بيروت قديماً. تضيف: "في فلسطين من لم يكن في بيته طابونة، كان يأخذ عجينه إلى فرن قريب من بيته ويخبزه. وفي كلّ الأحوال يحضّر العجين في المنزل". تتابع: "في بيتنا كنّا نخبز الكعك أيضاً على الفرنيّة، وهو ما زلت حتى اليوم أتابعه بالإضافة إلى حلويات مختلفة".
تقول: "لم تقتصر العادات فقط على العجن والخبز في البيت، بل كنا نصنع جميع أنواع المربيات أيضاً. وقد حافظت على هذه العادة فجميع مربَّياتي من تين وتفاح وفريز ومشمش هي من صنع يديّ، خصوصاً بالطريقة التي علمتها لي أمي. وهي لذيذة ونظيفة". تتابع: "كذلك أعدٌّ القاورما (لحم محفوظ بالدهن) فهو أشهى من النوعية التجارية".
بالرغم من كلّ ذلك، تشتاق أم أكرم إلى فلسطين التي غادرتها قبل 67 عاماً. تتمنى العودة وتقول: "لا شيء في العالم كله يعوضني عن فلسطين، وعن شعبها. كلمة لاجئ مرة وصعبة جداً، ولها وقع الحسرة الكبيرة في القلب. كلّ أملي هو في العودة إلى فلسطين، فلا بيت ولا مكان يعوضني زاروباً من زواريب منطقة الزيب التي عشت فيها طفولتي وشبابي وتعلمت وتزوجت. فلسطين بلدي التي أفتخر بها، والزيب قريتي التي أعتز بها. هي قرية غنية بالبساتين قريبة من البحر، شعبها طيب وعاداتها راسخة، ما زلنا نتبعها حتى اليوم، لكنّ طعمها أجمل بكثير هناك".
اقرأ أيضاً: سميرة تعيل أسرتها وحدها