طرحت اعتداءات باريس تحديات أمنية جديدة على السلطات الفرنسية، والتي بدت استراتيجيتها الأمنية عاجزة عن وقف التهديدات الإرهابية التي تعصف بالبلاد. ولم تكن اعتداءات الجمعة أول هجوم إرهابي يضرب فرنسا، بل جاءت بعد عدة عمليات كانت السلطات الفرنسية تعمد بعدها إلى تغيير وتشديد استراتيجيتها الأمنية.
ولكن على الرغم من حالة الاستنفار الأمني المرتفعة ووعي كبار المسؤولين بأن فرنسا مهددة بعمل إرهابي نوعي، لم تتمكن السلطات في النهاية من تفادي حصول مجزرة الجمعة. ولم يفهم الفرنسيون حتى الآن كيف تمكنت مجموعات منظمة ومدججة بالأسلحة الرشاشة من تنفيذ ست عمليات في وقت زمني قصير لا يتعدى نصف ساعة وانتقلت بحرية لتضرب المقاهي ومسرح "باتاكلان" من دون أن تتمكن الأجهزة الأمنية من صدها في الوقت المناسب.
وأمام هول الاعتداءات وخسائرها البشرية الموجعة التي وصلت إلى 129 قتيلاً و300 جريح، اضطر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى إعلان حالة الطوارئ الشاملة في كل الأراضي الفرنسية في إجراء غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهو الإجراء الوحيد الذي يسمح بمنح السلطات الأمنية كل الصلاحيات في تعقب العناصر الإرهابية ومراقبة الحدود ومنع التجمّعات ووقف حركة السير وإلغاء الأنشطة والفعاليات العامة.
من جهته، استبق رئيس الحكومة مانويل فالس الانتقادات، وأعلن أمس الأحد أنه "مستعد لدراسة كل الحلول الممكنة لتفادي الأعمال الإرهابية"، ومنها تعزيز إجراء إسقاط الجنسية الفرنسية على المشتبه في تشبعهم بالأفكار الجهادية وليس الإرهابيين فقط، وأيضاً تسريع وتيرة طرد الأئمة المتشبعين بالأفكار السلفية المناهضة لمبادئ الجمهورية.
ومن المتوقع أن تسرّع الحكومة إجراء خلق معتقلات خاصة لتجميع المعتقلين الإسلاميين المتطرفين لمنعهم من نقل "عدوى التطرف" إلى معتقلي الحق العام الذين صاروا يغذون بكثافة صفوف الجهاديين.
وابتداءً من السبت الماضي تعالت عدة أصوات من الشخصيات السياسية وأيضاً من مسؤولين أمنيين سابقين، تدعو لإعادة النظر في نظام خانة "سين"، وهي الخانة الأكثر خطورة والمخصصة أساساً للأشخاص المشتبه في احتمال ارتكابهم لاعتداءات إرهابية أو جرائم تمسّ أمن الدولة. ويرى هؤلاء ألا فائدة عادة بالنفع من هذا النظام، ذلك أن غالبية العناصر التي حاولت القيام بأعمال إرهابية في الأشهر الأخيرة مصنفون في هذه الخانة لكن ذلك لم يمنعهم من تفادي المراقبة الأمنية.
ومن بين أهم الاقتراحات في هذا الصدد وأكثرها تشدداً ما تمثل في اتخاذ إجراء بطرد أي شخص مصنف في هذه الخانة من فرنسا وتجريده من الجنسية، مع العلم أن عدد المصنفين فيها في فرنسا يصل إلى نحو 8 آلاف شخص وغالبيتهم لا سوابق جنائية لهم.
وفي سياق حالة الطوارئ التي ستدوم 12 يوماً قابلة للتجديد، تصبح كل الوسائل متاحة للسلطات الأمنية من أجل التصدي للمحاولات الإرهابية وتعقب المشتبه بهم، لكن حالة الطوارئ ستكون مؤقتة لكونها تتعارض مع أبسط المبادئ الديمقراطية وتعيق حركة الحياة العادية، وستجد الحكومة نفسها مرغمة على اتخاذ المزيد من الإجراءات المتشددة التي ستقلّص لا محالة من هامش الحريات لأن البلد كما قال فالس "في حالة حرب" وضمان أقصى درجات الأمن يمر بالضرورة عبر هامش الحريات الفردية.
اقرأ أيضاً: المدعي العام الفرنسي:ارتفاع عدد قتلى اعتداءات باريس الى 129
وفي عودة إلى تاريخ العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا، فإن السلطات انتبهت منذ مستهل عام 2010 إلى محدودية ترسانتها الأمنية والقانونية في مواجهة أشكال الإرهاب الجديدة فشرعت تدريجياً في وضع استراتيجية أمنية جديدة لمحاربة الإرهاب.
وعام 2012 تعرضت فرنسا إلى عملية إرهابية نوعية جعلتها تكتشف معطيات غير مسبوقة في الخطر الإرهابي، حين قام شاب فرنسي من أصل جزائري اسمه محمد مراح، بثلاث عمليات منفصلة ومتسلسلة وصفى ثلاثة جنود فرنسيين في مدينة مونتوبان، قبل أن يهاجم مدرسة يهودية في تولوز ويقتل أربعة مدنيين. حينها ركزت السلطات على خطة أمنية جديدة استهدفت بالخصوص احتواء ظاهرة "الذئاب المنفردة" والأفراد الذين يخططون وينفذون عمليات إرهابية من دون الارتباط بقاعدة هرمية تعطي الأوامر وتمنح التسهيلات.
ومن بين أهم التدابير التي تم اتخاذها آنذاك: منع دخول الأجانب المشتبه بتشبعهم بالتيارات الجهادية، وحظر الخروج من فرنسا على الأشخاص المشتبه في نيتهم الالتحاق بمناطق القتال الجهادية في أفغانستان والشرق الأوسط. كذلك تم الانتباه لأول مرة إلى دور الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فتم إصدار قوانين تمنح السلطات حق معاقبة الأشخاص الذين يشيدون بالإرهاب عبر المواقع الاجتماعية وحق حجب المواقع التي تروج للعنف الجهادي ومحاربة "الجهاد الرقمي" بوسائل تكنولوجية متطورة تتيح التجسس على الحسابات الشخصية للمشتبه فيهم.
وبعد اعتداءات يناير/ كانون الثاني 2015 التي استهدفت مجلة "شارلي إيبدو"، عززت السلطات استراتيجيتها الأمنية ضد الإرهاب وأطلقت الدرجة القصوى من عملية "فيجي بيرات" الخاصة بحماية الأراضي الفرنسية من خطر العمليات الإرهابية، وجنّدت نحو 30 ألف شرطي وجندي لهذه المهمة تكفلوا بمهمة حراسة المنشآت الحساسة والمباني الحكومية والقيام بدوريات في المطارات ومحطات القطار والشوارع الرئيسية.
وبالموازاة أقرت حكومة فالس قانوناً جديداً للاستخبارات اشتمل على مجموعة إجراءات تضع إطاراً شرعياً يُسهّل اللجوء إلى تقنيات المراقبة المختلفة، من تنصّت وتصوير وتجسس على محتوى الاتصالات عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. وبفضل هذا القانون تم إضفاء صبغة قانونية على ممارسات سرية، كانت تلجأ إليها الأجهزة الاستخباراتية في تحقيقاتها، وترصّدها لـ"الشبكات الإرهابية" من دون الحصول على إذن من السلطات القضائية. وصار بإمكان أجهزة الاستخبارات استخدام برامج إلكترونية متطورة، تُتيح التنصّت على هواتف المشتبه فيهم، وعلى معارفهم وعائلاتهم أيضاً. كذلك أتاح هذا القانون إمكانية إلزام محركات البحث في الإنترنت مثل "غوغل"، وأيضاً شبكات التواصل الاجتماعي، مثل "فيسبوك" و"سكايب"، على تقديم معلومات سرّية تخصّ حسابات المستخدمين.
وبعد العملية التي نفذها مواطن فرنسي من أصول جزائرية يدعى ياسين الصالحي، ضد معمل للبتروكيماويات في بلدة سانت كونتان بضواحي مدينة غرونوبل في يونيو/حزيران الماضي، قررت حكومة فالس تشديد الإجراءات ضد المساجد المعروفة بميولها السلفية المتطرفة واتخذت إجراءات تتيح طرد الأئمة الذين يروّجون للأفكار العنيفة وينتقدون مبادئ الجمهورية الفرنسية.
لكن كلما عززت السلطات من إجراءاتها الأمنية تجد نفسها عاجزة عن استباق الاعتداءات الإرهابية، مثلما حدث مع المغربي أيوب الخزاني الذي حاول القيام باعتداء على متن قطار تاليس السريع الرابط بين أمستردام وباريس. وأثارت هذه العملية التي تم إجهاضها، تساؤلات حول كيفية نجاح الخزاني في الصعود إلى القطار في محطة بروكسيل محملاً برشاش كلاشنكوف ومسدس وكمية كبيرة من الذخيرة، من دون أن يتعرض لأي عملية تفتيش أو مراقبة، ولا سيما أنه كان مصنفاً كشخص خطير لدى أجهزة الاستخبارات الإسبانية والفرنسية والبلجيكية.
هكذا تم الانتباه إلى صعوبة تأمين محطات القطارات وأيضاً مسألة الأمن داخل القطارات نفسها، فاتخذت الحكومة إجراءً يتيح لموظفي القطارات صلاحية تفتيش المسافرين ومراقبة أمتعتهم.
كما أثارت عملية "تاليس" بقوة مسألة نظام "شنغن" الذي يكفل حرية التنقل وإلغاء الحدود بين 26 بلداً من بلدان الاتحاد الأوروبي منذ عام 1995. فقد تنقّل الخزاني بحرية وسهولة بين إسبانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا عبر القطارات والمطارات من دون أن يتعرّض للمراقبة. وبعد اندلاع أزمة اللاجئين الذين تدفقوا بكثافة منذ الصيف الماضي على البلدان الأوروبية، بادرت عدة دول إلى تعليق العمل بنظام "شنغن" وتعزيز المراقبة على الحدود، وخصوصاً بعد توفر معلومات لدى بعض أجهزة الاستخبارات الأوروبية تفيد باحتمال اندساس مقاتلين من تنظيم "داعش" بين المهاجرين.
اقرأ أيضاً: أجواء حرب تعمّ فرنسا وأسئلة حول الإخفاقات الأمنية