فعلها المقدسيون
لم يكن في مقدور المقدسيين الأحرار، أن يجبنوا أو يتخاذلوا أو يستكينوا، كما فعل بعضٌ رسميٌّ وشعبي فلسطيني، أمام هذا الظلم والغطرسة، والقهر الممارس ضدهم، تحديداً من قوات الاحتلال الصهيوني التي ضيّقت الخناق عليهم بطريقة بشعة، في مختلف مناحي حياتهم، بفرض الضرائب الباهظة، وهدم البيوت، وأحياناً، إجبارهم على هدمها بأنفسهم، عدا عن الغطرسة والنمردة التي يرتكبها غلاة المستوطنين المتطرفين، بتدنيس المسجد الأقصى المبارك وساحاته الطاهرة، وفوق ذاك، الإعلان، بكل وقاحة، عن نيّتهم تقسيمه والسيطرة عليه، أو هدمه وبناء هيكلهم المزعوم.
ظنّ بعضهم أن أهالي القدس أُسقط في أيديهم، فكان الظنّ وهماً، تبدّد على حلقات متصاعدة ومتلاحقة، إذ باءت بالفشل كل محاولات تهويد المدينة، والتخطيط لإسقاط شبابها، وإغراقهم في مستنقعات العمالة والمخدرات، كما فشلت كل محاولات تحريف المناهج الدراسية، وشطبها من مدارس المدينة المحتلة. وأثبت هؤلاء المقدسيون الأحرار أن لحمهم مرّ، وأنهم قادرون على أخذ حقّهم بأيديهم، وبطرقٍ باتت محلّ فخر وتقدير واستحسان، فباتت انتفاضة بيت المقدس تتصاعد، بوتيرةٍ عالية، وبأساليب متعددة ومتجددة، على الرغم من الخذلان الرسمي والشعبي لهذه الهبّة المباركة التي باتت تنتظر تحركاً رسمياً من السلطة الوطنية لمساندتها، وعدم الاكتفاء بالكلام الذي لا يُغني ولا يسمن من جوع، فأبناء شهداء القدس باتوا بحاجة إلى دعم وإسناد حقيقي من السلطة الوطنية الفلسطينية التي عليها أن ترعاهم وتتكفّلهم بحقّ، وأن توفّر لهم بيوتاً ومساكن، بدل منازلهم المهدومة، أو التي ستهدم. وحتى اللحظة، لم نسمع عن أي تحرك أو إجراء من هذا القبيل، وستكون مهزلة كبيرة إن تم منحهم مخصصات شؤون اجتماعية، قد لا تصل إلى مئتي دولار شهرياً، وبصورة غير منتظمة أيضاً!
أليس من العيب، ألا ندعم هذه الروح الثائرة في القدس، حتى لو من قبيل أن نُسرج في قناديلها زيتاً، طبقاً للحديث النبوي الشريف؟ أليس من العار أن نترك إخواننا وحدهم في ميدان المواجهة، وكأن القدس للمقدسيين فقط؟ فجبانٌ كل من خنع وخضع، وترك أولى القبلتين لقمة سائغة، يتم تهويدها وتدنيسها، وترك أطفال الأبطال يتامى حائرين تائهين على قارعة الزمن، يندبون حظّهم، هم وأمهاتهم الأرامل.
فجّرها البطل الشهيد معتز حجازي، بإطلاقه النار على المتطرف إيهود غليك، فكسر الصمت حينها بإعلانٍ صريح وواضح مفاده بأن للمقدسات حرمتها. وتبعه الشهيد البطل، إبراهيم عكاري، بحادث دهس في الشيخ جراح، وجد صداه في حادثي دهس في بيت لحم والخليل، ثم قتلوا الشهيد خير حمدان من كفر كنا بدم بارد، وبوحشية، ثم أعدم مستوطنون الشهيد يوسف الراموني شنقاً بطريقة بشعة، فجاء الرد أسرع مما توقّع المحتلون، عندما أذّن الخليفة العادل عمر بن الخطاب في جبل المكبّر ثانيةً، ففعلها الشهيدان، غسان وعدي أبو جمل، انتقاماً ونصرةً للمدينة وأبنائها.
هذه السياسة الإسرائيلية العنجهيّة والمتطرّفة هي التي تُجبر الضحيّة على الاستئساد، والتضحية بالنفس والاستشهاد، لأن كثرة الضغط تولّد الانفجار، وكما قال المثل الشعبي الفلسطيني: "من يطرق الباب يسمع الجواب". فهل يستوعب نتنياهو وجوقة السوء المحيطة به، الدرس؟ وهل يدركون أنه آن الأوان لهذا الشعب أن ينال حريته، وأن يتخلّص من غطرسة آخر احتلالٍ على وجه الكرة الأرضية؟ وأن يعيش في ظل دولته الحرة المستقلة بأمان واطمئنان؟ ليس ثمّة بوادر تشير إلى وجود ذرّة عقلانية واحدة لدى القيادة الإسرائيلية، ولا لدى الجمهور الإسرائيلي الذي انتخبها، وطالما بقي الوضع على هذه الحال، عليهم أن ينتظروا ما هو أكبر وأصعب، كنتيجة حتمية، فلكل فعل رد فعل، وهذه الدوّامة هم من وضعوا أنفسهم فيها، وبأيديهم هم، أيضاً، يمكن الخروج منها، أو إنهاؤها إلى الأبد.
هل كان ينتظر رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ووزير خارجيته التافه، أفيغدور ليبرمان، ووزير اقتصاده المتخلّف، نفتالي بينت، ونائب رئيس الكنيست الإسرائيلي المتطرف، موشيه فيجلين، وغلاة المتطرفين، أن يرتكبوا كل هذه الجرائم، وأن يبقى المقدسيون صامتين صمت أبي الهول؟ فهم في منتهى الغباء، إن لم يكونوا قد توقّعوا هذا الغضب الشعبي العارم. انفجر المارد المقدسي، ففعلها الشبان المقدسيون الأحرار، وسجّلوا التاريخ بطريقتهم الخاصة، فيما نحن نكتفي بدور الواجم المشدوه.
يا لعارنا، ويا لذلّنا. متى ندرك أن القدس تحتاج منا أكثر من لعب دور الجمهور المتفرّج؟