فلسطين بعد وعد بلفور
يجمع المتابعون لاتجاهات تطور القضية الفلسطينية على أن إصدار وعد بلفور قبل 97 عاماً، قد أسس لبروز مأساة الشعب الفلسطيني، المستمرة بفصولها المختلفة، حيث تمّ طرد غالبيته من أرضه، ناهيك عن إنشاء إسرائيل على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، البالغة 27009 كيلومترات مربعة.
وقد تساءل متابعون عن جدوى القرار البريطاني، قبل أيام، عن مجلس العموم البريطاني، والداعي إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية غير المنجزة أصلاً، حيث اعتبره كثيرون مجرد موقف عابر لامتصاص غضب آلاف البريطانيين الذين دانوا المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة صيف العام الحالي.
ووعد بلفور هو التصريح البريطاني الرسمي الصادر في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1917، وأعلنت فيه الدولة الاستعمارية تعاطفها مع الأماني اليهودية في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، على شكل رسالة بعث بها وزير الخارجية البريطاني، اللورد بلفور، إلى المليونير اليهودي، اللورد روتشيلد. وقد جسد الوعد ضلوع مثلث التحالف الشرير بين الإمبريالية العالمية، ممثلة ببريطانيا، وبموافقة باقي الأطراف الإمبريالية، والصهيونية العالمية التي تشمل الرأسمالية اليهودية، ممثلة باللورد روتشيلد، لصالح حركة الغزو الاستيطاني الصهيوني لفلسطين على حساب فلسطين وشعبها الذي كان يمثل نسبة تقدر بنحو 93% من مجموع السكان، وكذلك ملكية الأرض. وكان هذا الوعد الذي أدخل في صك الانتداب البريطاني على فلسطين فيما بعد ضد إرادة عرب فلسطين الصريحة الواعية، بداية سلسلة حوادث وأحداث أدت، في النهاية، إلى اغتصاب وطن وتشريد شعب بكامله على نحوٍ لا سابق له في التاريخ.
زرع كيان استيطاني في فلسطين
ويجمع باحثون على أن هناك دوافع متشعبة لإصدار وعد بلفور، بيد أن الثابت والأكيد أن السبب الرئيسي هو تحقيق الهدف الإمبريالي الثابت، والذي بدأ بسياسة رئيس وزراء بريطانيا، بالمرستون، الذي دعا عام 1839 إلى زرع كيان يهودي استيطاني في فلسطين، ليكون حاجزًا بين مصر والمشرق العربي، على اعتبار أن ذلك يشكل، بحد ذاته، قلعة أمامية ضد التحرر والوحدة العربية، تلك السياسة التي تبناها جميع قادة الإمبراطورية البريطانية منذ بالمرستون، حيث نجم عنها، في نهاية المطاف، إصدار وعد بلفور المشؤوم قبل 97 عاماً، وعندما صدر في أثناء الحرب العالمية الأولى، كانت القوات البريطانية تحارب للاستيلاء على فلسطين من الدولة العثمانية التركية. أرادت بريطانيا أن تحكم فلسطين لموقعها قرب قناة السويس التي تصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر. واعتقد البريطانيون أن وعد بلفور سيساعد على كسب التأييد لهذا الهدف من زعماء اليهود في بريطانيا والولايات المتحدة وفي دول أخرى. وفي عام 1922، صادقت عصبة الأمم على وعد بلفور، وأعطت بريطانيا حق الانتداب على فلسطين.
بعد شهر من إصدار الوعد المشؤوم، احتلت القوات البريطانية فلسطين، وأكملت احتلال فلسطين في سبتمبر/أيلول 1918، وبدأت مباشرة بتحويل وعد بلفور إلى واقع ملموس على الأرض، بتشجيع الهجرة اليهودية، وسن تشريعات تمكّن اليهود من السيطرة على الأرض الفلسطينية.
انتفاضات فلسطينية
وكانت بريطانيا قد مهدت لهذا الاحتلال باتفاقية سريّة أبرمتها مع فرنسا عام 1916، لتقسيم الأراضي العربية بينهما، خلافا لعهود قطعتها للشريف حسين بمنح العرب الاستقلال في دولةٍ، تمتد من تركيا وحتى بحر العرب، وتشمل بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية، باستثناء جنوب اليمن، إذا ثار العرب على الدولة العثمانية. وبالفعل، أعلن الشريف حسين الثورة على تركيا، تنفيذاً لما اتفق عليه مع بريطانيا، في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا وفرنسا تتباحثان على تقسيم المنطقة، وهي مباحثات أسفرت عن إبرام اتفاقية "سايكس – بيكو" التي صنفت فلسطين منطقة دولية، قبلت فرنسا فيما بعد بوضعها تحت النفوذ البريطاني. هذا التاريخ سبقته جهود كبيرة بذلتها الحركة الصهيونية، بقيادة تيودور هرتزل مؤلف كتاب "دولة لليهود"، والذي يعتبر الأب المؤسس لما صارت تعرف لاحقاً دولة إسرائيل. ونجحت هذه الجهود في دفع الحكومة البريطانية إلى تبني المطالب الصهيونية بإنشاء دولة لليهود في فلسطين.
اتخذت الخطوات البريطانية لتأسيس دولة لليهود أبعاداً عملية بإنشاء الفيلق اليهودي، وتزويده بالأسلحة والمعدات وتدريب عناصره على القتال، وشرعت بمصادرة الأرض وتشريع القوانين وبناء المؤسسات الاستعمارية، واعتقال الفلسطينيين المعارضين، وشهدت فلسطين عمليات مسلحة وانتفاضات وثورات ضد الاحتلال البريطاني واليهود، وكانت انطلاقة العمل المسلح المنظم عام 1919 عبر جمعية "الفدائية"، إلا أن بريطانيا تصدت لهذه الجمعية، وأجهضتها.
وفي 1920، اندلعت انتفاضة في القدس، يمكن اعتبارها أول انتفاضة شعبية في تاريخ فلسطين الحديث، حيث لعب الحاج أمين الحسيني دوراً مهماً في إشعالها، ففرضت السلطات البريطانية الأحكام العرفية، وحكمت بالسجن 10 سنوات غيابياً على الحاج أمين الحسيني، إلا أنه لم يسجن. ثم توالت الانتفاضات الفلسطينية بعد ذلك، مثل انتفاضة يافا عام 1921 ضد الهجرة اليهودية، ثورة البراق عام 1928 التي اندلعت عندما حاول اليهود تحويل حائط البراق إلى كنيس يهودي. وفي العام التالي، تصدى الفلسطينيون لليهود الذين نظموا مظاهرات في القدس، اتجهت إلى حائط البراق ورفعوا العلم الصهيوني، ووقعت صدامات عنيفة في فلسطين، أسفرت عن سقوط 116 شهيداً فلسطينياً، معظمهم قتلوا برصاص القوات البريطانية.
ثورة ضد الاحتلال
وفي 1935، أعلن الشيخ عز الدين القسام الثورة ضد الاحتلال البريطاني والهجرة اليهودية، إلا إن القوات البريطانية حاصرته ورفاقه في أحراش يعبد قرب جنين، ودارت معركة عنيفة بين الطرفين، استشهد فيها القسام واثنان من رفاقه، وألقي القبض على سبعة آخرين في 19-11-1935، ومهدت ثورة القسام لإضراب عام 1936 في محاولةٍ لإحباط المشروع الصهيوني، والضغط على بريطانيا، لوقف مساعدة اليهود في إنشاء دولتهم المنشودة في فلسطين.
وشمل الإضراب الذي يعتبر أطول إضراب في التاريخ على عصيان مدني، وشاركت فيه كل القطاعات، وتوحدت عليه القيادات الفلسطينية في إطار وطني جديد، أطلق عليه "اللجنة العربية العليا"، برئاسة الحاج أمين الحسيني الذي كان رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في 25 إبريل/نيسان 1936.
حاولت بريطانيا وقف الثورة والإضراب بكل الوسائل، وفشلت، ولجأت إلى طلب مساعدة الحكومات العربية، لوقف الإضراب، وبالفعل، تدخلت الدول العربية، حيث وجه زعماء السعودية والعراق وشرق الأردن واليمن نداءً لأهل فلسطين لوقف الإضراب والثورة، معتمدين على حسن نيات "صديقتنا"، الحكومة البريطانية، واستجاب الفلسطينيون وأوقفوا الإضراب بعد ستة أشهر من المقاومة، اعتمادا على وعود الزعماء العرب بتحقيق مطالبهم. إلا أن بريطانيا أخلفت وعدها مجدداً، حيث شكلت لجنة أوصت عام 1937 الحكومة البريطانية بإقامة دولتين، يهودية وعربية، على أرض فلسطين، ورفض الشعب الفلسطيني توصيات اللجنة، ما أدى إلى تفجر الثورة مجددا. وعمدت سلطات الاحتلال البريطاني إلى حل اللجنة العربية العليا، وإبعاد أعضائها إلى جزيرة سيشل في المحيط الهندي، وإقالة المفتي الحاج أمين الحسيني من رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، وحل اللجان القومية، وتنفيذ حملة اعتقالات واسعة.
ووصلت الثورة التي انطلقت ثانية إلى ذروتها عام 1938، فسارعت بريطانيا إلى إرسال قوات ضخمة إلى فلسطين، وإعادة احتلال المناطق التي حررها الفلسطينيون، باستخدام كل ترسانتها العسكرية، من طائرات ودبابات ومدفعية، وقتلت كثيرين من قادة الثورة، ما أفقدها زخمها عام 1939 بعد ثلاث سنوات من المقاومة الفلسطينية، ضد أكبر أمبراطورية في ذلك الحين.
في هذا الوقت، كانت الأموال الأميركية والبريطانية والغربية تتدفق إلى فلسطين، لتمويل بناء "الوطن القومي اليهودي"، بل إن آرثر بلفور صاحب الوعد بإقامة دولة لليهود في فلسطين، افتتح بنفسه الجامعة العبرية في القدس عام 1925، واستمرت بريطانيا بالعمل على توفير كل ما من شأنه تحويل وعد بلفور إلى دولة حقيقية لليهود على الأرض، وتوّج الأمر بإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في 29-11-1947 يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة لليهود وأخرى للفلسطينيين.
في الخامس عشر من مايو/أيار 1948 انسحب الجيش البريطاني من فلسطين، ليسلم أراضيها إلى العصابات الصهيونية، شتيرن وهاغانا وأرغون، ولتبدأ فصول المأساة الفلسطينية، حيث ارتكبت تلك العصابات عشرات المجازر بالفلسطينيين، ما دفع 61% من الشعب الفلسطيني للهرب إلى خارج فلسطين، ومع استمرار إسرائيل في سياساتها، تكرر مشهد الطرد في 1967 إبان احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث طرد الجيش الإسرائيلي 460 ألف فلسطيني، ليطلق عليهم لقب نازح، وليصبح 71% من إجمالي الشعب الفلسطيني عام 2014 ضحايا الترانسفير الصهيوني المبرمج الذي كان من نتائج الدعم البريطاني والغربي لإنشاء الدولة الصهيونية، واستمرارها على حساب الشعب الفلسطيني وأرض أجداده.