على مدار سنوات وبعد إعلانات متتالية عن قرب موعد الافتتاح، التي سرعان ما يتمّ تأجيلها، ها هو "المتحف الفلسطيني"، يُفتتح، بشكل "محدود"، كما صرّح القائمون عليه، واعدين بافتتاح أكبر سيَلي هذا. وكحال مشاريع كثيرة، جاء الافتتاح وحمل ما حمل معه من أسئلة، حول رسالة وتطلّعات المشروع الذي كلّف، حتى الآن، أكثر من 28 مليون دولار، بتصميم معماري قيل، أيضاً، إنه صديق للبيئة.
يظهر جزء مما سبق، وكأنه عادي، بل يكاد يصبح متلازمة لكثير من المشاريع التي تُطلق في فلسطين المحتلة أو حتى في المنطقة العربية، وخصوصاً إذا ما اقترن الأمر بالمنجز الثقافي وإحيائه والارتقاء به.
لكن المتحف الوليد عانى على مدار أكثر من تسعة عشر عاماً، هي عمر فكرته، من عقبات ومشاكل إدارية كان آخرها ما أثير عند إقالة مديره التنفيذي، جاك برسكيان، على خلفية مشاكل واتهامات مالية، ثم إشراف إدارة المؤسسة المباشرة ("مؤسسة التعاون")عليه، قبل تعيين محمود هواري، مديراً عاماً له والذي سبق افتتاحه بوقت قصير.
وعلى الرغم من مشاكله الإدارية والمالية يعتبر القائمون عليه أنّه: "يساهم في إنتاج روايات عن تاريخ فلسطين وثقافتها بمنظور جديد، مركّزاً على الفترة الممتدة، منذ عام 1750 وحتى وقتنا الحالي، كما يوفّر المتحف بيئة حاضنة للمشاريع الإبداعية والبرامج التعليمية والأبحاث المبتكرة، وهو أحد أهم المشاريع الثقافية المعاصرة في فلسطين"، لكنهم لم يطرحوا بعد إجابات لكثير من الأسئلة أو تصوراً مقنعاً عن أدواته المتحفية، وتلك السردية التي سيعتمدها في إطار تقديم فلسطين للعالم في هذا المضمار.
المثير في أمر رسالة المتحف، هو تركيزه غير المفهوم على الحقبة الزمنية الأخيرة، أي من منتصف القرن الثامن عشر وحتى الآن، من دون الالتفات إلى ما سبق ذلك، الأمر الذي يحيل الموضوع برمته إلى نقاش السياسات المتحفية المعمول بها وعلى رأسها تركيز المتحف على الجانب الشفهي من التاريخ إلى جانب مشروع صور العائلة، وفعالية أزياء تراثية هي أبرز مشاريع المتحف المعلن عنها، حتى اللحظة، لتفتح تساؤلات عن الموضوع الأساس حول تكلفة البناء الكبيرة مقابل عرضه مشاريع فولكلورية حظيت بكثير من الاهتمام الثقافي والسياسي سابقاً. وهو تركيز يذهب في أقصى انشغاله إلى الفولكلور في مقابل انشغال إسرائيلي واسع يتمحور حول الجانب الأثري الذي يمتدّ لآلاف السنين.
ولعل اللافت، أيضاً، في الرسالة التي تقدّمها المؤسسة القائمة على المتحف، وعبر موقعها الرسمي غياب الحدود بين فكرة المتحف وما يشتمله دور المتحف من جمع، وحفظ، وبحث، وتواصل وعرض للتراث الإنساني وتطوره، وبين فكرة المعارض الثقافية الخفيفة والسريعة التي تُعرف بـ "الغاليري" الثقافي والفني، والتي ترتكز أصلاً على الدينامية الثقافية المتسارعة.
جاء ما تخطط الإدارة إلى إنجازه، أقرب إلى أنشطة صالات العرض منها إلى المتحف، فوفقاً لما أشار القائمون على المتحف في الموقع الرسمي: "صُمّم المتحف ليكون مؤسسة عابرة للحدود السياسية والجغرافية، إذ يسعى لتشكيل حلقة وصل بين الفلسطينيين في فلسطين وخارجها من خلال أرشيفاته الرقمية ومنابره الإلكترونية، ومن خلال شبكة من الشراكات المحلية والعالمية التي ستتيح له ولشركائه فرص تبادل الخبرات والموارد والمعارض والمشاريع".
يروق مثلاً للقائمين الحاليين وسابقيهم، وفي إطار حملة الترويج المستمرة، منذ سنوات، الربط بين "المتحف الفلسطيني" في القدس، الذي سيطرت عليه دولة الاحتلال بالقوة إبان احتلالها للمدينة المقدّسة عام 1967، والذي بات يعرف الآن بمتحف "روكفلر"، وبين المتحف الفلسطيني الوليد؛ لكن المفارقة أن "المتحف الفلسطيني" في القدس قد ضمّ، قبيل احتلاله، مجموعة كبيرة من القطع الأثرية المكتشفة من الحفريات التي أُجريت في فلسطين في عهد "الانتداب البريطاني" ما بين العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، والتي ذهبت نهباً إلى سيطرة الاحتلال، إضافة إلى شموليته، في ما يتعلق بالتاريخ الإنساني والأثري للبلاد.
وبالعودة إلى فعالية افتتاح المتحف، فقد أجمع مراقبون على أنه افتقد أبسط شعاراته المرفوعة من أن المتحف الذي يقع في بلدة بيرزيت القريبة من مدينة رام الله "منبر للفلسطينيين جميعاً"، لطالما أن فعاليات افتتاحه قد اقتصرت على عدد محدود من المدعوين جلّهم من الشخصيات الاعتبارية، في حين ذهب آخرون إلى التساؤل عن جدوى افتتاح متحف ظهرت صالاته فارغة إلا من صور شاهدها الحضور في مناسبات أخرى.
وفي معرض ذلك كله، تبدو "جهات سيادية" فلسطينية، مثل وزارتَي الثقافة والسياحة، بعيدة عن تصوّرات وسياسات المتحف الجديد، نتيجة استئثار "مؤسسة التعاون"، وهي مؤسسة مجتمع مدني فلسطينية كبيرة، يقوم مجلس إدارتها بالإشراف على أعماله كلها منذ منتصف التسعينيات، مكتفية على ما يبدو بالاحتفاء بالمشروع الجديد فقط.