قبل أن نعرفها كاتبة قصة، ثمّ شاعرة، جاءت معرفتنا الأولى بزهيرة زقطان، في مجال أشغال التطريز اليدويّة أوّلاً، وتحديداً في اشتغالها على الموروث الكنعاني بأساطيره وأناشيده، اشتغالات تجسّدت في عدد من المعارض للمطرّزات أنجزتها، في تصاميم تعتمد صور الكائنات الطبيعية من شجر وأزهار وطيور هي من "حواضر" الموروث الفلسطينيّ/ الكنعانيّ.
ولعلّ المطّلع على المنجز الأدبي والفنّي للشاعرة/ الفنّانة زهيرة زقطان، سيكتشف - ببساطة -تقارب عوالمها وأسلوبها ولغتها في قصصها وروايتها، كما في قصائد ديوانها الجديد، مع عوالمها في أشغالها اليدويّة في مجال التطريز. عوالم تتجسّد على نحو واضح في ديوانها الجديد "الساهرات أصبحن خارج البيت". هنا، وخلال زيارتها عمّان، كان لنا معها "فنجان قهوة" حول عوالمها، بدءاً من حضور والدها الشاعر خليل زقطان(1928-1980)، وتجربتها في بيروت، وصولاً إلى رام الله حيث تقيم وتعمل.
في الميثولوجيا الكنعانية، وفي طقس الموت تحضر الساهرات أو النادبات؛ نساء نذرن أنفسهنّ للحزن والبكاء على الموتى، ويتم الطقس بنصب خيمة للساهرات خارج عتبة البيت، ويتخلل البكاء أدعية خاصة بشكل نشيد وأغانٍ، ولا يسمح بدخولهن البيت إلا حين يتم الدفن. وهكذا، فإن ساهرات الأساطير - النادبات - ما زلن في خيمة الوداع، هنّ أمّهات شهداء وقتلى الحروب، أمّهات الأسرى أيضاً. ما زلن في خيام الساهرات المزدحمة بالزوجات والأخوات والأبناء.
* أنتِ كتبت القصة القصيرة والرواية والنصوص والشعر، كيف تختارين "جنس" الكتابة؟
تعاملت مع الكتابة كحالة تعبير دون التفكير بنوع أو اسم أو شكل محدد. في تصوري أنها حالة يجد الكاتب نفسه أمامها دون تخطيط مسبق؛ أكتب نصي تحت تأثير الحدث والحالة، وفي النهاية هو يفرض شكله الأدبي، ربما لذلك عندي كثيرٌ من النصوص لم أنشرها، وعليّ أيضاً أن أتوازن مع شغلي اليدوي اليومي الذي يرتبط بالنص، فكلاهما يشكل حالة أجد نفسي فيها، وكلاهما يمتص التوتر العالي واليومي المفروض على العقل والجسد. فالكتابة في رأيي، ليست محددة بشكل ونمط معيّن، بل هي تمتلك جغرافية مفتوحة على المعرفة والتجريب وشيء من المغامرة أيضاً.
* لنتحدّث عن الترابط بين القصيدة ولوحتك "التطريزية"؟ لنتحدث عن معرضك الأخير مثلاً؟
لا يمكنني أن أتجاوز معرضي الذي هو تتمة لمشروعي التوثيقي، بالذهاب إلى أحلامي لعمل معرض مختلف تماماً، مختلف بالفكرة والموضوع والألوان وبجمهور خاص، جمهور من الأطفال. بالتأكيد سيكون كل شيء مختلفاً. أحتاج أن أفرد القماشة البيضاء، وأنسج الورود بكل الألوان، من دون أن أفكر في الألوان التي ترتبط بموضوع أو نص معيّن. سأكتب على وسادة طفل مثلاً عبارة "نوم الهنا"، أو "نم يا حبيبي مثل ما بتنام الغزالة"، وأرسم غزالة أو غزالات كثيرات، وأكتب على كل لوحة حكاية، ومن النصوص أختار ترنيمات - عائشة - للنوم. كل ما حلمت أن أنسجه لطفل لي. أتمنى أن أمتلك القدرة لأن أعمل شيئاً خارج الخراب. أريد رسوماً بلا كلمة حرب ولا حزن ولا جنود. أريد فسحة صغيرة، أصغر من حلم عادي لامرأة لا تزال تحلم بطفل لم يأتِ بعد.
* لندخل إلى عالمك السرديّ، من خلال المجموعتين القصصيتين، "أوراق غزالة"، "النعمان وقصص أخرى"، اللتين صدرتا في تسعينيّات القرن الماضي؟
في الكتابين لم يكن هناك أبطال هبطوا من الأسطورة، فكل من كتبت عنهم كانوا معي وغادروا تاركين لي كل هذا الإرث من الهزائم والغياب، في موضوع واحد هو الحرب والحب ومفهوم الوطن والخراب والفقد الإنساني، الشخصي والعام. هنا تجد أبي والشاعر علي فوده وميشيل النمري، تجد أيمن، الطفل الناجي الوحيد من عائلة أبيدت في مذبحة تل الزعتر، تعرفت عليه في بيت الصمود في بيروت، وأيضاً المناضلة الفرنسية فرانسواز كاستيمان التي قتلت على شاطئ حيفا. هؤلاء الذين سأذهب بهم إلى بغداد بعد عشر سنوات من غيابهم، إلى (النعمان) مستشفى العائدين من الحرب مقطوفي الأطراف والأمل، جنود بلا انتصارات، لأرى نساء بلا رجال أصحّاء، وأطفالا لآباء تشوّهوا أو لم يعودوا من حروب الآخرين إلى شقائق تموز أو النعمان في أسطورة الكنعانيين عن الموت/ الحياة، والحياة/ الموت. سأجد أن الحرب لا تختلف، وأنها كارثة بلا انتصارات، وأن الذين رحلوا كانوا يحبون الحياة وأن لا شيء يعوّض الفقد البشري.
*وأخيراً، ماذا عن كتابك "أوغاريت: ذاكرة حقل"، أهو تأريخ لحقبة من حياة الشعب الفلسطيني/ الكنعاني؟
كتابي هذا إضاءة ساطعة على تاريخ الفلسطيني الكنعاني والسوري واللبناني، جهدي فيه قائم على حقائق علماء التاريخ والآثار، المادة التي عملت عليها هي من وثائق المكتشفات المكتوبة على رُقم الطين والمحفورة كتابة ورسوماً على الأبنية والمعابد والقصور والمكتبات التي تم الكشف عنها، ودعمتها آثار الدول المجاورة للمكان، كبلاد الرافدين، اليونان، خرائب تل العمارنة في مصر، وكل ما وثقته فيه كان يبتدئ من الهجرات العربية من الجزيرة العربية وسواحل عمان قبل العام 4500 ق.م إلى العام 1200 ق.م. في التاريخ الأول وصول قبائل كنعان إلى مناطق سورية الكبرى، حتى قدوم غزاة العبيرو واليهود القادمين من سيناء الى أرض فلسطين، وكان يشمل الدين والآداب والعمارة والفن والمجتمع بقيمه وعاداته وحضارته الممتدة إلى أبعد من ساحل الأبيض المتوسط.