في مناسبة "موسم الأعياد اليهودية" في تشرين الأول/ أكتوبر الحالي (2016) أجرت صحيفة "يسرائيل هيوم" الناطقة بلسان رئيس حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، مقابلة مطوّلة مع "رئيس لجنة الخارجية والأمن" في "الكنيست" آفي ديختر، أحد أقطاب حزب الليكود الحاكم، الرئيس السابق لـ"جهاز الأمن العام" (الشاباك) والوزير السابق لـ"الأمن الداخلي ولشؤون الجبهة الداخلية"، سألته فيها عن رأيه في الأحداث السياسية والأمنية الأخيرة داخليًا وإقليميًا.
وردًّا على سؤال كان فحواه: رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في الـ81 من عمره وليس في صحة جيدة، ماذا سيجري في اليوم التالي لذهابه؟، أجاب ديختر قائلًا: "منذ عام 2005 لم تجر أي انتخابات (فلسطينية)، وفي تقديري أن عباس سيؤجل الانتخابات الرئاسية بقدر ما يستطيع. ولست واثقًا من أن الرئيس المُقبل للسلطة الفلسطينية سيكون من تنظيم فتح لأن حماس مستعدة للسيطرة بصورة ديموقراطية. وتدرك هذه الحركة أنه عندما سينهي عباس مهماته فإن الذي سيحلّ مكانه بصورة مؤقتة هو رئيس البرلمان رجل حماس (عزيز دويك).
وبالاستناد إلى الدستور بعد مرور شهرين أو ثلاثة أشهر ستجري انتخابات ولن أفاجأ لو ترشح خالد مشعل وأصبح رئيسًا. والذي سيحدث هو أحد أمرين: إما أن تعلن حماس إلغاء جميع الاتفاقات التي وقعتها السلطة الفلسطينية مع إسرائيل، أو تعلن عدم التزامها بهذه الاتفاقات.
وسيؤدي هذا إلى وضع لن تقبل به إسرائيل وستضطر إلى السيطرة على المناطق (المحتلة)، لأنه من دون ذلك فمن المنتظر أن تشكل هذه المناطق خطرًا دائمًا عليها بسبب إلغاء الاتفاق الذي يفرض أن تكون الضفة الغربية وغزة منزوعتي السلاح. ومثل هذا الواقع سيعيدنا إلى وضع أسوأ بكثير مما كان موجودًا في هذه المناطق قبل اتفاق أوسلو".
كما سُئل ديختر في ما إذا كان بالإمكان منع انتخاب مشعل؟، فأجاب: "لقد حاولت إسرائيل (في الماضي) مرة واحدة رسم صورة الحكم في لبنان عام 1982 عندما أيدت بشير الجميل، لكن منذ ذلك الحين فهمت حدود القوة. ومن المحتمل أن ترشح فتح عنها في الانتخابات مروان البرغوثي، لكن يجب ألا ننسى أن حماس تحظى بتأييد كبير جدًا في الضفة الغربية".
يرسم هذا النص، فوق السطور، معظم "ملامح" الرهانات الإسرائيلية على كل ما يحفّ بقضية خلافة عباس في رئاسة السلطة الفلسطينية.
وفي طليعة هذه الرهانات يجب ذكر ما يلي: أولًا، تأجيل الانتخابات لرئاسة السلطة الفلسطينية قدر الممكن، وخلال ذلك العمل من أجل ضمان عدم فوز أي تنظيم مثل حماس بها في حال إجرائها، حتى ولو بشكل ديموقراطي، وهذا أمر تبدو دولة الاحتلال متأكدة تمامًا من أنها لن تتكفل به بمفردها، وقد لا تتكفّـل به على الإطلاق، والمعنى مفهوم.
ثانيًا، استمرار التزام الفلسطينيين باتفاق أوسلو رغم انتهاء صلاحيته منذ مدة طويلة، نظرًا إلى أن الأوضاع التي كانت قائمة قبله سيئة، من وجهة نظر دولة الاحتلال، والعودة إليها ليست واردة.
ثالثًا، الحفاظ على "الوضع القائم" في "الأراضي المحتلة". ولئن كانت الهبة الشعبية الفلسطينية الحالية التي اندلعت منذ أكثر من سنة، قد تسببت بتآكل مثل هذه الإمكانية، وخصوصًا في لحظات ذروتها، فإن انخفاض عمليات المقاومة عاد "يزيّن" التعويل الإسرائيلي على هكذا رهان، في ضوء افتقاد ما بوسعه أن يقوّضه.
وتداولت تقارير إسرائيلية أخرى احتمال قيام عباس، لحلّ مسألة الخلافة، بتعيين نائب لرئيس السلطة الفلسطينية من فتح، لكنها بموازاة ذلك شدّدت على أن خطوة كهذه سيُنظر إليها فلسطينيًا بصفتها أحادية الجانب، الأمر الذي من شأنه أن يعرقل أكثر فأكثر أي جهود يتم بذلها لإنجاز مصالحة وطنية فلسطينية تضع حدًّا للانقسام. وبالتالي من المنطقيّ اعتبار خطوة كهذه بمثابة رهان إسرائيلي رابع، لكنه يندرج في عداد صنف آخر من الرهانات الإسرائيلية، يجري التعبير عنها عادة تحت السطور.
السياق الوطني المنشود
في واقع الأمر، تُوجّـه كل هذه الرهانات الإسرائيلية، والأصح القول يُفترض بها أن توجّـه، الطرف الفلسطيني إلى حقيقة أن أي مُخرجات لمسألة خلافة عباس في رئاسة السلطة الفلسطينية لا يكون من شأنها أن تدفع قدمًا بجهود تحقيق المصالحة الوطنية ستبقى خارجة على السياق الوطني العام المنشود.
في الوقت ذاته، ما يزال صوغ مثل هذا السياق الوطني العام ارتباطًا بالهبة الشعبية مرهونًا، ضمن أشياء أخرى، بإجراءات تنأى بداية عن مساعي إحباطها. لماذا لا نقول إجراءات تنحو منحى استثمار الهبّة؟ لأننا نفتقر إلى مؤشرات قوية تفيد بمنحى كهذا.
أكثر من ذلك، شدّدت الكثير من التقارير الإسرائيلية الأخيرة، التي ظهرت في إطار التقييمات المستجدة للهبّة الشعبية في مناسبة مرور عام على اندلاعها، على أن ما يبدو علنًا من عمليات المقاومة التي تقوم بها هذه الهبّة محدود جدًا بالمقارنة مع حجمها الإجمالي.
وبالاستناد إلى معطيات تناقلتها تلك التقارير عن الأجهزة الأمنية لدولة الاحتلال، فقد جرى إحباط مئات عمليات المقاومة قبل وقوعها خلال هذا العام، ووفقًا للتقارير نفسها "من المعقول الافتراض أنه من دون مساعي الإحباط الإسرائيلية والفلسطينية سيكون نطاق هذه الهبّة أوسع وأشد قوةً بكثير".
ولا تكتمل الدائرة من دون أن نشير إلى أنه برغم كل ما ذُكـر، تمكنت الهبّة الفلسطينية من إيصال رسالتين بشأن سببين من مجمل أسبابها: الأول، استمرار الاحتلال؛ الثاني، انسداد أي أفق سياسي. وكان ينقصها المزيد من عوامل التدعيم المنهجية.
بيد أنه في غياب ذلك، وفي ضوء عوامل وظروف أخرى ليست مرتبطة بالوضع الفلسطيني فقط، لم يترتب على الهبّـة مردود ملموس، مثلًا على شكل أن تُمارس على دولة الاحتلال عوامل ضاغطة كافية تضعها وجهًا لوجه أمام السببين السالفين وغيرهما من أسباب الهبّة، بما أتاح لها إمكان أن تعالج العوارض فقط، وبوسائل أمنية بالأساس، وأحيانًا بوسائل اقتصادية بطريقة "العصا والجزرة" المعهودة.
وبخصوص الطريق السياسي المسدود، فإن "الأفق" الوحيد الذي تطرحه دولة الاحتلال كبديـل أقصى لـ"الوضع القائم" هو معاودة المفاوضات التي لا تفضي سوى إلى مزيد منها.
في هذه الأثناء تعمل دولة الاحتلال بشكل منهجي على تأبيد احتلالها لـ"القدس الشرقية" والضفة الغربية.
وتمثل قضية مستوطنة "عمونه" التي أقيمت على أراض فلسطينية خاصة بالقرب من مدينة رام الله، وأصدرت المحكمة الإسرائيلية العليا قرارًا يقضي بإخلائها حتى نهاية السنة الحالية (2016)، من دون أن تظهر إشارات إلى أن هذا القرار سيُنقّـذ، قضية مهمة في فهم التغيرات التي طرأت على سياسة دولة الاحتلال في العقد الأخير، كما أنها تمثل حالة لفهم مدى تغلغل المستوطنين وتأثيرهم في المشهد السياسي الإسرائيلي.
وداخل دولة الاحتلال تمتلك حكومة نتنياهو فائضًا من القوة والتأييد الشعبي يجعل المسؤولين فيها يكشّرون عن أنيابهم لا حيال فلسطينيي 48 فحسب، وإنما أيضًا حيال جماعات حقوق الإنسان التي تتجرأ على انتقاد الاحتلال وفضح انتهاكاته، إلى حدّ اتهامهم بالخيانة العظمى.
* كاتب وباحث فلسطيني/ عكا