04 ديسمبر 2015
فيدرالية الكرد... خطأ القرار والتوقيت والأسلوب
يمكن القول، بثقةٍ عالية، إن هاجس الدولة الكردية المستقلة، أو الإقليم المستقل على طريقة كردستان العراق، هو هاجس وطموح كل كردي سوري، كما يمكن القول، بالثقة نفسها، إن إعلان الفيدرالية، منتصف الشهر الماضي، في الرميلان من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وحفنة من القوى الديكورية، إنما يحظى بشعبية عامة لدى معظم الكرد، تفوق بأضعاف شعبية حزب الاتحاد الديمقراطي نفسه.
لن تدخل هذه المقالة في جدل حول الحقوق التاريخية للكرد في الأرض والوطن، فكاتب المقالة يسلم سلفاً بأن للكرد حقوقاً لا تنقص، ولا تزيد عن حقوق أي سوري آخر لمجرد وجودهم في هذا الوطن، ورغبتهم العيش فيه، ولو كان عمر ذلك الوجود عشر سنوات، وهي المدة الكافية للحصول على جنسية أية دولة، والكردي غير مضطر للمجادلة في حقوقه تلك.
ولا يجادل صاحب هذه السطور، أيضاً، في حق الكرد بأن يحلموا بدولتهم، وأن يسعوا إلى الخيارات التي تناسبهم، بما فيها الدولة المستقلة، فحق تقرير المصير للشعوب أصبح مكفولاً بموجب شرائع دولية، كما أن إرغام شعب على البقاء جبراً تحت صيغة حكم لا يقبلها هو بمثابة إغلاق جرح بالقيح والصديد الذي فيه، من دون معالجة وتعقيم.
ومن جانب آخر، ليست الفيدرالية سُبّة، والأنظمة الفيدرالية من أنجح الأنظمة في العالم، وقد يكون خيار الفيدرالية هو الأنسب في دولةٍ تتوفر على هذا التنوع العرقي والديني والثقافي، كسورية، وخصوصاً بعد أن وصلت مستويات الشك والريبة بين المكونات، وربما العداء بين بعضها، إلى مرحلةٍ متقدمة يصعب جبرها، بسبب الإدارة السامة لمسألة المكونات من نظام الطغمة، ثم بسبب الصراع العنيف والمديد الذي تسبب به النظام نفسه، لكن القضية لا تكمن في مبدأ الفيدرالية بحد ذاته، وإنما بالطريقة والظروف والتوقيت، فالوصول إلى فيدرالية ناجحة تكون حلاً ناجعاً لأزمة العلاقات بين السوريين، وتسمح للبلد بالبقاء موحداً وقابلاً للتقدم، هو عمل حساس ومعقد، وله شروطه وآلياته ومقدماته وبيئته المناسبة، والتي لا يمكن تجاوزها تحت طائلة إدخال الجميع في صراعاتٍ ومشكلاتٍ تستنزفهم إلى أجل غير مسمى.
من زاوية أبطال الفيدرالية، صالح مُسلم وموالوه، فإن اللحظة التاريخية الراهنة هي أفضل لحظةٍ يمكن اختيارها للبدء بتنفيذ مشروع الفيدرالية، الذي هو مقدمة لمشروع الكانتون المستقل على طريقة كردستان العراق، فهم يرون أن الكرد في أقوى حالاتهم، بحكم ضعف خصومهم المحليين والإقليميين، أو انشغالهم بقضاياهم المصيرية، وبحكم دعم دولي استثنائي لهم، أميركي وروسي خصوصاً، على خلفية خدماتهم المطلوبة في محاربة التنظيمات المتطرفة، وربما في الضغط على الأتراك، وبحكم دعم نظام الطغمة لهم وتأييده العملي خطوتهم (المعلن هو العكس)، لأنها تساهم في تأجيج الصراع وتعقيده، فتزيد من فرص النظام في البقاء، ولأنها، من جانب آخر، تفتح الباب أمام مشروع التقسيم الذي يتحرّج النظام فتحه، والذي أصبح مطلوباً له قبل غيره بعد أن تضاءلت فرص بقائه على رأس البلاد.
ومن زاوية المنطق والمصلحة، مصلحة كل السوريين، وفي مقدمتهم الكرد، يمكن القول إن
اللحظة التاريخية الآن هي أسوأ لحظةٍ يمكن اختيارها لإعلان خطوات مصيرية حساسة، ذات أبعاد وطنية وإقليمية ودولية، كقضية الفيدرالية، فالبلد مفجوع بهذا الصراع الكارثي العنيف الدائر منذ سنوات، والشعب منهك إلى أقصى الحدود، والاستقطاب بين المكونات على أشده، ولا دولة ولا مؤسسات ولا أمن.. فكيف، والحال هذه، يمكن الحديث عن مشروع فيدرالية تتطلب استقراراً ونقاشاً وطنياً وتوافقات ومؤسسات شرعية ومظلة قانونية واستفتاءات...؟
يتناسى صالح مسلم وفريقه، وهم يتوسلون القوة والغلبة في فرض مشروعهم، أمرين رئيسين، الأول أن قوتهم وهمية، ولا أساس متين لها، لأنها تقوم على ضعف الآخرين وقلة حيلتهم من جانب، وعلى دعم دولي وفّرته معطيات الصراع من جانب آخر، وكلا الأمرين، ضعف الآخرين والدعم الدولي، استثنائي ومؤقت ومرتبط بظرف تاريخي، لا يلبث أن يتغير، فالمحيط العربي سيستعيد قوته عاجلاً أم آجلا، وتركيا ستستعيد قدرتها على الفعل، والتي تضرّرت بسبب توتر العلاقة مع الأميركان والحضور العسكري الروسي الكثيف والمباشر، وستعود لعلاقاتها الوطيدة مع الناتو والولايات المتحدة، لأنها حليف أكثر من استراتيجي لهما، وهي، بالتأكيد، لن تهادن مع كانتون كردي على حدودها الجنوبية، تحكمه نسخة من حزب العمال الكردستاني.. أما النظام القائم شكلاً بقوة الآخرين ودعمهم فهو زائل لا محالة، ولا توجد قوة في الأرض تستطيع إعادة تدويره.
أما الأمر المنسي الثاني فهو أن الولايات المتحدة لا تحتفظ بسجل مشرف في المحافظة على صداقاتها ودعم أصدقائها، ولا تتردد في التخلي عنهم بدم بارد، عندما تستدعي مصلحتها. ولدى المبدأ المحترم لديها أنه لا صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة. لذلك، يكون التعويل على بقاء دعمها خطأً فادحاً، وانتهاء دور الكرد في محاربة داعش قد يكون بداية النهاية لهذا الدعم، إذا لم تبرز مصلحة أخرى تستدعي تجديده.
سيكون على الكرد، إذن، حماية إقليمهم الناشئ الضعيف المشوّه المثقل بأمراض الولادة، وسط محيط معادٍ بكل معنى الكلمة، تركيا شمالاً والعرب غرباً وجنوباً. كما سيكون على الكرد حماية أنفسهم من أكثر من نصف سكان الإقليم من العرب، والذين سيتولى أعداء الخارج دعمهم بكل سرور. ولن يكون أمامهم، في هذه الحال، سوى الاستقواء بالخارج، بدول قوية قادرة، ولها مصالحها في المنطقة. وهذا يعني تنازلهم عن قرارهم الوطني المستقل لصالح لتلك الدول، والعيش تحت رحمتها وبشروطها، والخارج جاهز لهذا الاستثمار، طالما كانت لديه طموحات ومشاريع هيمنة في المنطقة تتطلب مساعدة عملاء من أهلها، ومشاريع الهيمنة موجودة، وهي واضحةٌ لدى كل من إسرائيل وإيران وتركيا وروسيا على الأقل. وسرعان ما سيصبح الكانتون الكردي، وباقي الكانتونات التي قد تتبعه، أدوات بين أيدي دول متصارعة، الأمر الذي سيحول المنطقة إلى ميدانٍ لصراعاتٍ وحروبٍ لا نهاية لها.
عملياً، لا يمكن تخيل استمرار كانتون ضعيف في بيئة معادية، من دون الارتهان لدولة قوية تحميه.
لا ترسم الحدود بالدم على ما يقول مسعود البرزاني، ولا بالغلبة، فهي أسوأ طرق الرسم، خصوصاً في حالتنا السورية التي لا تشبه حالة العراق، لأن الأمر لا يتوقف فقط على الدماء التي ستسفك لرسم الحدود، بل على الدماء التي ستسفك مستقبلاً، ولسنين طويلة، لحماية تلك الحدود وحماية من بداخلها.
سيرتب رسم الحدود بالدم والغلبة على الجميع، كرداً وعرباً، ضريبة دم باهظة لا يعلم مقدارها ومداها إلا الله.
ما زالت الخطوة في بدايتها، وما زالت آثارها محدودة، والتراجع عنها ما زال ممكناً إذا أُعملت العقول وتفكّر الجميع بأبعاد المسألة وتداعياتها. لكن، يبدو أن كل شيء متاح في هذه الأيام إلا العقل والتفكير، فالأجواء مسمومة، والتوتر والاستقطاب على أشده بين السوريين، والعصبية والتعصب والعنصرية والتشنج وقلة العقل هي سيدة الموقف، والاتهامات تتطاير بين الأطراف، ولا تُسمع سوى أصوات التهديد والوعيد وطبول الحرب.
يتحمل القومجيون العرب بالتأكيد جزءاً كبيراً من المسؤولية عن هذا التصعيد والأجواء
المشحونة، مثلما يتحملون بالأساس جزءاً من المسؤولية عن إيصال الكرد إلى مرحلة الكفر بالوطن الواحد والعيش المشترك، فهم طالما نظروا إلى الكرد كأغيار، وتجاهلوا قضاياهم وحقوقهم، وتراهم الآن أكثر من يستنكر ويهاجم خطوتهم نحو الفيدرالية، وبخطاب متشنج عنصري أحمق، غير مدركين أنهم، بذلك، إنما يزيدون الأزمة تعقيداً، ويستدعون ردات فعل من الطبيعة نفسها، ويدفعون غلاة القومية الكردية إلى مواصلة مشروعهم الانفصالي بحماسٍ أكبر، ويجلبون لهم دعماً أكبر.
تكمن مشكلة الكرد، كما أراها، في أنهم يقيسون حياتهم ومستقبلهم في سورية من خلال معيار وحيد أوحد، هو تجربتهم السيئة مع نظام "البعث" وحكم الطغمة الأسدية خلال نصف القرن المنصرم، معتبرين أن تلك الفترة تعبر عن تاريخ سورية ومستقبلها، وأن شراكتهم مع العرب في وطن واحد ستأخذ دائماً المنحى نفسه، وستكون حقوقهم مهضومة على طول الخط، ومهما حصل من تغييرات. متجاهلين أنهم كانوا على قدم المساواة مع شركائهم في الوطن، قبل مجيء "البعث"، وأنه كان من بينهم الرؤساء والوزراء والقادة العسكريون، ومتجاهلين أن حكم الطغمة ظلَم الجميع، وأن الجميع يتطلع ويناضل للخلاص من هذا الكابوس وتصفية آثاره، والوصول إلى دولة الحريات والمواطنة المتساوية.
لم تكن مشكلة الكرد يوماً في العروبة ومع العرب، فالعروبة نفسها كانت أولى ضحايا حكم البعث ونظام الطغمة الذي استثمرها لتحقيق مصالحه وشرعَنة حكمه، وإخفاء عيوبه. المشكلة تكمن في الاستغلال السيئ للعروبة وليس فيها. كما أن مشكلتهم لم تكن يوماً مع مركزية الدولة، فالمركزية طريقة في إدارة الدولة، وهي معتَمدة في دول ديمقراطية مرموقة، وهي ليست صنواً للاستبداد. طبيعة النظام الحاكم في الدولة المركزية، ومدى احترامه مبادئ الدولة الوطنية الحديثة، وفي مقدمتها المواطنة والمساواة والعدالة والحرية وسيادة القانون والمشاركة، هي من يأخذ الدولة المركزية في هذا الاتجاه أو ذاك.
مشكلة الكرد، وكذلك العرب وكل السوريين، هي مع نظام طغمةٍ بوليسي مافيوي، احتل الدولة نصف قرن، قمع الجميع، وسرق الجميع، وأهان الجميع، وضرب الجميع بالجميع، وألغى السياسة والثقافة والتواصل والنقاش بين السوريين، وأوصلهم إلى ما هم عليه من شكٍّ وريبةٍ وتوجس وعداء بين بعضهم. ولا يصح تحميل العرب أو العلويين أو مركزية الدولة وزر ذلك.
وحل مشكلة الكرد والعرب وكل السوريين هو في قيام الدولة الوطنية الحديثة التي توفر البيئة الملائمة لقيام علاقاتٍ صحيةٍ وصحيحةٍ بين المكونات، عمادها العدالة والمساواة، ولإطلاق نقاش مسؤول في جميع القضايا الوطنية ومعالجتها، بما فيها قضايا تقرير المصير.
رحم الله مشعل التمو، المناضل السوري الكردي البارز، الذي دفع حياته ثمناً لتمسكه بالشعار الوطني الجامع "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد".
لن تدخل هذه المقالة في جدل حول الحقوق التاريخية للكرد في الأرض والوطن، فكاتب المقالة يسلم سلفاً بأن للكرد حقوقاً لا تنقص، ولا تزيد عن حقوق أي سوري آخر لمجرد وجودهم في هذا الوطن، ورغبتهم العيش فيه، ولو كان عمر ذلك الوجود عشر سنوات، وهي المدة الكافية للحصول على جنسية أية دولة، والكردي غير مضطر للمجادلة في حقوقه تلك.
ولا يجادل صاحب هذه السطور، أيضاً، في حق الكرد بأن يحلموا بدولتهم، وأن يسعوا إلى الخيارات التي تناسبهم، بما فيها الدولة المستقلة، فحق تقرير المصير للشعوب أصبح مكفولاً بموجب شرائع دولية، كما أن إرغام شعب على البقاء جبراً تحت صيغة حكم لا يقبلها هو بمثابة إغلاق جرح بالقيح والصديد الذي فيه، من دون معالجة وتعقيم.
ومن جانب آخر، ليست الفيدرالية سُبّة، والأنظمة الفيدرالية من أنجح الأنظمة في العالم، وقد يكون خيار الفيدرالية هو الأنسب في دولةٍ تتوفر على هذا التنوع العرقي والديني والثقافي، كسورية، وخصوصاً بعد أن وصلت مستويات الشك والريبة بين المكونات، وربما العداء بين بعضها، إلى مرحلةٍ متقدمة يصعب جبرها، بسبب الإدارة السامة لمسألة المكونات من نظام الطغمة، ثم بسبب الصراع العنيف والمديد الذي تسبب به النظام نفسه، لكن القضية لا تكمن في مبدأ الفيدرالية بحد ذاته، وإنما بالطريقة والظروف والتوقيت، فالوصول إلى فيدرالية ناجحة تكون حلاً ناجعاً لأزمة العلاقات بين السوريين، وتسمح للبلد بالبقاء موحداً وقابلاً للتقدم، هو عمل حساس ومعقد، وله شروطه وآلياته ومقدماته وبيئته المناسبة، والتي لا يمكن تجاوزها تحت طائلة إدخال الجميع في صراعاتٍ ومشكلاتٍ تستنزفهم إلى أجل غير مسمى.
من زاوية أبطال الفيدرالية، صالح مُسلم وموالوه، فإن اللحظة التاريخية الراهنة هي أفضل لحظةٍ يمكن اختيارها للبدء بتنفيذ مشروع الفيدرالية، الذي هو مقدمة لمشروع الكانتون المستقل على طريقة كردستان العراق، فهم يرون أن الكرد في أقوى حالاتهم، بحكم ضعف خصومهم المحليين والإقليميين، أو انشغالهم بقضاياهم المصيرية، وبحكم دعم دولي استثنائي لهم، أميركي وروسي خصوصاً، على خلفية خدماتهم المطلوبة في محاربة التنظيمات المتطرفة، وربما في الضغط على الأتراك، وبحكم دعم نظام الطغمة لهم وتأييده العملي خطوتهم (المعلن هو العكس)، لأنها تساهم في تأجيج الصراع وتعقيده، فتزيد من فرص النظام في البقاء، ولأنها، من جانب آخر، تفتح الباب أمام مشروع التقسيم الذي يتحرّج النظام فتحه، والذي أصبح مطلوباً له قبل غيره بعد أن تضاءلت فرص بقائه على رأس البلاد.
ومن زاوية المنطق والمصلحة، مصلحة كل السوريين، وفي مقدمتهم الكرد، يمكن القول إن
يتناسى صالح مسلم وفريقه، وهم يتوسلون القوة والغلبة في فرض مشروعهم، أمرين رئيسين، الأول أن قوتهم وهمية، ولا أساس متين لها، لأنها تقوم على ضعف الآخرين وقلة حيلتهم من جانب، وعلى دعم دولي وفّرته معطيات الصراع من جانب آخر، وكلا الأمرين، ضعف الآخرين والدعم الدولي، استثنائي ومؤقت ومرتبط بظرف تاريخي، لا يلبث أن يتغير، فالمحيط العربي سيستعيد قوته عاجلاً أم آجلا، وتركيا ستستعيد قدرتها على الفعل، والتي تضرّرت بسبب توتر العلاقة مع الأميركان والحضور العسكري الروسي الكثيف والمباشر، وستعود لعلاقاتها الوطيدة مع الناتو والولايات المتحدة، لأنها حليف أكثر من استراتيجي لهما، وهي، بالتأكيد، لن تهادن مع كانتون كردي على حدودها الجنوبية، تحكمه نسخة من حزب العمال الكردستاني.. أما النظام القائم شكلاً بقوة الآخرين ودعمهم فهو زائل لا محالة، ولا توجد قوة في الأرض تستطيع إعادة تدويره.
أما الأمر المنسي الثاني فهو أن الولايات المتحدة لا تحتفظ بسجل مشرف في المحافظة على صداقاتها ودعم أصدقائها، ولا تتردد في التخلي عنهم بدم بارد، عندما تستدعي مصلحتها. ولدى المبدأ المحترم لديها أنه لا صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة. لذلك، يكون التعويل على بقاء دعمها خطأً فادحاً، وانتهاء دور الكرد في محاربة داعش قد يكون بداية النهاية لهذا الدعم، إذا لم تبرز مصلحة أخرى تستدعي تجديده.
سيكون على الكرد، إذن، حماية إقليمهم الناشئ الضعيف المشوّه المثقل بأمراض الولادة، وسط محيط معادٍ بكل معنى الكلمة، تركيا شمالاً والعرب غرباً وجنوباً. كما سيكون على الكرد حماية أنفسهم من أكثر من نصف سكان الإقليم من العرب، والذين سيتولى أعداء الخارج دعمهم بكل سرور. ولن يكون أمامهم، في هذه الحال، سوى الاستقواء بالخارج، بدول قوية قادرة، ولها مصالحها في المنطقة. وهذا يعني تنازلهم عن قرارهم الوطني المستقل لصالح لتلك الدول، والعيش تحت رحمتها وبشروطها، والخارج جاهز لهذا الاستثمار، طالما كانت لديه طموحات ومشاريع هيمنة في المنطقة تتطلب مساعدة عملاء من أهلها، ومشاريع الهيمنة موجودة، وهي واضحةٌ لدى كل من إسرائيل وإيران وتركيا وروسيا على الأقل. وسرعان ما سيصبح الكانتون الكردي، وباقي الكانتونات التي قد تتبعه، أدوات بين أيدي دول متصارعة، الأمر الذي سيحول المنطقة إلى ميدانٍ لصراعاتٍ وحروبٍ لا نهاية لها.
عملياً، لا يمكن تخيل استمرار كانتون ضعيف في بيئة معادية، من دون الارتهان لدولة قوية تحميه.
لا ترسم الحدود بالدم على ما يقول مسعود البرزاني، ولا بالغلبة، فهي أسوأ طرق الرسم، خصوصاً في حالتنا السورية التي لا تشبه حالة العراق، لأن الأمر لا يتوقف فقط على الدماء التي ستسفك لرسم الحدود، بل على الدماء التي ستسفك مستقبلاً، ولسنين طويلة، لحماية تلك الحدود وحماية من بداخلها.
سيرتب رسم الحدود بالدم والغلبة على الجميع، كرداً وعرباً، ضريبة دم باهظة لا يعلم مقدارها ومداها إلا الله.
ما زالت الخطوة في بدايتها، وما زالت آثارها محدودة، والتراجع عنها ما زال ممكناً إذا أُعملت العقول وتفكّر الجميع بأبعاد المسألة وتداعياتها. لكن، يبدو أن كل شيء متاح في هذه الأيام إلا العقل والتفكير، فالأجواء مسمومة، والتوتر والاستقطاب على أشده بين السوريين، والعصبية والتعصب والعنصرية والتشنج وقلة العقل هي سيدة الموقف، والاتهامات تتطاير بين الأطراف، ولا تُسمع سوى أصوات التهديد والوعيد وطبول الحرب.
يتحمل القومجيون العرب بالتأكيد جزءاً كبيراً من المسؤولية عن هذا التصعيد والأجواء
تكمن مشكلة الكرد، كما أراها، في أنهم يقيسون حياتهم ومستقبلهم في سورية من خلال معيار وحيد أوحد، هو تجربتهم السيئة مع نظام "البعث" وحكم الطغمة الأسدية خلال نصف القرن المنصرم، معتبرين أن تلك الفترة تعبر عن تاريخ سورية ومستقبلها، وأن شراكتهم مع العرب في وطن واحد ستأخذ دائماً المنحى نفسه، وستكون حقوقهم مهضومة على طول الخط، ومهما حصل من تغييرات. متجاهلين أنهم كانوا على قدم المساواة مع شركائهم في الوطن، قبل مجيء "البعث"، وأنه كان من بينهم الرؤساء والوزراء والقادة العسكريون، ومتجاهلين أن حكم الطغمة ظلَم الجميع، وأن الجميع يتطلع ويناضل للخلاص من هذا الكابوس وتصفية آثاره، والوصول إلى دولة الحريات والمواطنة المتساوية.
لم تكن مشكلة الكرد يوماً في العروبة ومع العرب، فالعروبة نفسها كانت أولى ضحايا حكم البعث ونظام الطغمة الذي استثمرها لتحقيق مصالحه وشرعَنة حكمه، وإخفاء عيوبه. المشكلة تكمن في الاستغلال السيئ للعروبة وليس فيها. كما أن مشكلتهم لم تكن يوماً مع مركزية الدولة، فالمركزية طريقة في إدارة الدولة، وهي معتَمدة في دول ديمقراطية مرموقة، وهي ليست صنواً للاستبداد. طبيعة النظام الحاكم في الدولة المركزية، ومدى احترامه مبادئ الدولة الوطنية الحديثة، وفي مقدمتها المواطنة والمساواة والعدالة والحرية وسيادة القانون والمشاركة، هي من يأخذ الدولة المركزية في هذا الاتجاه أو ذاك.
مشكلة الكرد، وكذلك العرب وكل السوريين، هي مع نظام طغمةٍ بوليسي مافيوي، احتل الدولة نصف قرن، قمع الجميع، وسرق الجميع، وأهان الجميع، وضرب الجميع بالجميع، وألغى السياسة والثقافة والتواصل والنقاش بين السوريين، وأوصلهم إلى ما هم عليه من شكٍّ وريبةٍ وتوجس وعداء بين بعضهم. ولا يصح تحميل العرب أو العلويين أو مركزية الدولة وزر ذلك.
وحل مشكلة الكرد والعرب وكل السوريين هو في قيام الدولة الوطنية الحديثة التي توفر البيئة الملائمة لقيام علاقاتٍ صحيةٍ وصحيحةٍ بين المكونات، عمادها العدالة والمساواة، ولإطلاق نقاش مسؤول في جميع القضايا الوطنية ومعالجتها، بما فيها قضايا تقرير المصير.
رحم الله مشعل التمو، المناضل السوري الكردي البارز، الذي دفع حياته ثمناً لتمسكه بالشعار الوطني الجامع "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد".